
قبل ثمانية عقود، جلس الملك عبد العزيز آل سعود والرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت على متن الطراد الأمريكي “يو إس إس كوينسي” في قناة السويس، في لقاء تاريخي مهد لتحالف نفطي واسع النطاق بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة. كان النفط يومها هو كلمة السر، إذ أرادت أمريكا تأمين تدفق الطاقة لعقود، وأرادت السعودية حماية نظامها الناشئ إضافة إلى تأمين مكانة على المسرح الإقليمي، فاغتنت شركات النفط الأمريكية من هذه الشراكة. ولم تكن قضية فلسطين حينها أكثر من بند هامشي في الحديث، تمامًا كما أن غزة اليوم ليست سوى سطر باهت عنوانه أسير مفرج عنه يحمل الجنسية الأمريكية، في ظل مئات المليارات المتداولة في قصور الرياض الحديثة. وفي الأمس كان الهدف تحجيم الاتحاد السوفييتي، أما اليوم فالمعركة مع التنين الصيني، والنفط الجديد اسمه الذكاء الاصطناعي.
أمس، وبين جدران قصر اليمامة في العاصمة السعودية الرياض، عُقد اجتماع مختلف، لكنه لا يقل أهمية عن ذاك اللقاء التاريخي. فبدلاً من أباطرة النفط، اجتمع في الرياض أباطرة التكنولوجيا في العالم — من جينسن هوانغ (NVIDIA)، وسام ألتمان (OpenAI)، إلى إيلون ماسك (Tesla, SpaceX)، وليندسي سو (AMD)، وآندي جاسي (Amazon)، وروث بورات (Alphabet/Google) — ورافقوا الرئيس الأمريكي دونالد ترمب في زيارة استثنائية لدول الخليج، كان محورها: بناء شراكات استراتيجية في الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية والرقائق المتقدمة، باستثمارات تتجاوز مئات المليارات من الدولارات.
أعلنت شركة NVIDIA وAMD عن اتفاقية ضخمة لتوريد شرائح ذكاء اصطناعي لمشروع سعودي عملاق يحمل اسم Humain، وهو مشروع يديره صندوق الاستثمارات العامة السعودي ويرأسه فعليًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ويهدف إلى إنشاء “مصانع ذكاء اصطناعي” بسعة طاقة تصل إلى 500 ميغاواط، تشمل “مئات الآلاف” من وحدات المعالجة الرسومية (GPU) المتقدمة. ستُستخدم هذه البنى التحتية لتشغيل مراكز بيانات عملاقة تقدم نماذج ذكاء اصطناعي متقدمة، وخدمات سحابية، بل ونسخ عربية من النماذج اللغوية الكبرى (LLM). الشركة يقودها طارق أمين، المدير التنفيذي السابق لشركة النفط السعودية أرامكو.
وأعلنت شركة MGX الاستثمارية التابعة لأبوظبي التزامها بضخ 100 مليار دولار في مشاريع الذكاء الاصطناعي في السعودية والإمارات. في الوقت ذاته، وعدت AWS – ذراع الحوسبة السحابية لشركة أمازون – باستثمار يتجاوز 5 مليارات دولار في مشاريع مرتبطة بالبنية التحتية السحابية والذكاء الاصطناعي.

وبينما أبدت شركات مثل Cisco وQualcomm رغبتها في الانضمام إلى المبادرات السعودية، شاركت شركات أمريكية كبرى أخرى في الالتزامات: Google Oracle، Salesforce وUber وتعهدت مجتمعة باستثمارات تُقدر بـ80 مليار دولار في تقنيات مشتركة في البلدين. كما أعلنت شركة DataVolt السعودية عن نيتها استثمار 20 مليار دولار في مراكز بيانات داخل الولايات المتحدة.
أما OpenAI، فأشارت إلى أنها بصدد دراسة إنشاء مراكز بيانات خاصة بها في دولة الإمارات، ضمن خطتها للتوسع العالمي.
إيلون ماسك، أحد الوجوه البارزة في الوفد، حلّق سعيدًا في الأجواء السعودية، إذ أعلن أن المملكة وافقت على تشغيل خدمة الإنترنت الفضائي “ستارلينك” التابعة لشركة SpaceX لتشمل الطيران والملاحة البحرية في البلاد، كما وعد بإدخال سيارات الأجرة الذاتية القيادة من طراز تسلا إلى الأسواق السعودية، معتبرًا أن المملكة ستكون بيئة “مذهلة” لهذا النوع من الابتكارات.
الرسائل من الرياض واضحة: السعودية تريد دورًا في مستقبل التكنولوجيا العالمية، وتسعى لتقليل اعتمادها على النفط التقليدي عبر بناء اقتصاد رقمي متقدم. وبالنسبة للولايات المتحدة، فإن هذا “الزواج الكاثوليكي” الجديد لا يقل أهمية عن اتفاقية النفط التي أرساها روزفلت مع عبد العزيز، فهو يعزز حضور واشنطن التكنولوجي في الخليج، ويقيّد النفوذ الصيني المتزايد في منطقة تمتلك الطاقة ورأس المال اللازم لدفع عجلة الذكاء الاصطناعي عالميًا.
مقالات ذات صلة: رغم عدم شربه القهوة: ترمب يوقع صفقة أسلحة تاريخية مع بن سلمان بقيمة 142 مليار دولار