في ظل الحرب المتواصلة على قطاع غزة، تواجه إسرائيل عزلة أكاديمية متنامية ألقت بظلالها على مؤسساتها التعليمية والبحثية، وتسببت في أضرار مادية ومعنوية ضخمة. فقد كشفت لجنة رؤساء الجامعات الإسرائيلية عن تسجيل أكثر من 750 حالة “مقاطعة مثبتة” منذ اندلاع الحرب، وهو ارتفاع كبير عن عدد الحالات المسجلة في النصف الثاني من عام 2024، والتي بلغت حينها نحو 500 حالة، بحسب تقارير نشرتها صحيفتا “هآرتس” و”تايمز أوف إسرائيل”.

أنماط المقاطعة وآثارها المتعددة
المقاطعة الأكاديمية تشمل رفض نشر مقالات علمية لباحثين إسرائيليين، وإلغاء منح أكاديمية كانت قد صودق عليها، ورفض تجديد عقود التعاون الأكاديمي. حيث قطعت عشرات الجامعات في أوروبا والولايات المتحدة علاقاتها مع مؤسسات التعليم العالي الإسرائيلية، كما ظهرت موجة من “المقاطعة الرمادية”، تمثلت في عدم الرد على الرسائل الأكاديمية وتجاهل طلبات التعاون من الجانب الإسرائيلي.
عمانوئيل نحشون، مدير لجنة مكافحة المقاطعة في لجنة رؤساء الجامعات، أكد أن جميع الجامعات البلجيكية تقريبًا تقاطع إسرائيل، بينما تنضم 80% من المؤسسات الأكاديمية في هولندا إلى هذا التوجه. كما اتخذت جامعات في إسبانيا، النرويج، إيطاليا، إيرلندا وسويسرا قرارات مماثلة.
البروفيسور دانيال حايموفيتش، رئيس جامعة بن غوريون، وصف انتشار المقاطعة بأنه “فيروس” تفشّى في أوروبا الغربية خلال الأشهر الثمانية عشر الأخيرة.
برنامج هواريزون الأوروبي تأثر أيضًا
الصدمة الكبرى جاءت من نتائج برنامج “هورايزون” الأوروبي، حيث لم يفز سوى 9 علماء إسرائيليين شبّان بمنح من أصل 100 مقترح. نسبة النجاح التي كانت تصل إلى 29% في السنوات السابقة، تراجعت إلى 9% فقط، وهو ما أطلق أجراس الإنذار في الأوساط الأكاديمية الإسرائيلية. البروفيسور أريئيل بورات، رئيس جامعة تل أبيب، حذر من “أضرار هائلة” ستلحق بالبحث العلمي في البلاد إذا استمرت هذه العزلة.
البروفيسور نوعام سوبيل، الباحث في معهد وايزمان، أشار إلى أن أحد أسباب هذا الانحدار هو “الجرائم الإسرائيلية” في غزة، والتي تركت أثرًا نفسيًا سلبيًا على مؤسسات ومنظمات أكاديمية أوروبية وأميركية، ما دفعها لاتخاذ مواقف حاسمة.
البروفيسورة ميليت شمير من جامعة تل أبيب، أكدت بدورها أن الجامعات باتت تتلقى أسبوعيًا ما بين 7 و10 تقارير عن حالات مقاطعة، وهو رقم يفوق بثلاثة أضعاف ما كان يسجل قبل عام واحد فقط.
انسحابات أوروبية وعقوبات مؤسسية
الضرر لم يقتصر على العلاقات الفردية بين الباحثين، بل امتد إلى اتفاقيات تعاون طويلة الأمد. ففي يونيو 2025، أعلنت جامعة جنيف إنهاء تعاونها مع الجامعة العبرية في القدس وجامعة تل أبيب، وأكدت عدم تجديد الاتفاقيات بعد عام 2026. كما جمدت جامعة إراسموس روتردام تعاونها مع جامعات بار إيلان والعبرية وحيفا، في حين أعلنت جامعة “ترينيتي كولدج” الإيرلندية قطع علاقاتها مع إسرائيل بسبب “الانتهاكات المستمرة للقانون الدولي والإنساني”.
وتشير التقارير إلى أن أكثر من 20 جامعة حول العالم اتخذت قرارات مشابهة، ما يعكس حجم الغضب الدولي من الممارسات الإسرائيلية في غزة، خاصة بعد مشاهد قصف مراكز توزيع المساعدات وقتل المدنيين.
قلق من أوروبا وخسائر بمليارات الدولارات
وفي هذا الصدد، حذّر “المجمع الوطني الإسرائيلي للعلوم والآداب” من أن تعليق اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي يمثل تهديدًا وجوديًا للمؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية. فخروج إسرائيل من برنامج “هورايزون” الأوروبي للمنح البحثية قد يؤدي إلى تجفيف التمويل وتراجع مستوى التعاون العلمي مع أوروبا بشكل دراماتيكي.
التقارير الاقتصادية تؤكد بدورها أن تكلفة المقاطعة الأكاديمية تقدر بمليارات الدولارات. فمنذ عام 2021 وحتى 2024، حصلت إسرائيل على 1.1 مليار يورو من البرنامج الأوروبي، لكن نسبة المشاركة انخفضت بنسبة 68.5% في عام 2025 وحده. كما كانت إسرائيل تستثمر 1.3 مليار شيكل سنويًا في هذه الشراكة، ما يعني خسائر ضخمة نتيجة توقف التمويل.
تقرير نشره موقع “كالكاليست” الاقتصادي وصف برنامج “هورايزون” بأنه “خط أنابيب الأكسجين” للجامعات، وحذر من أن قطع هذا الأنبوب قد يؤدي إلى انهيار المنظومة الأكاديمية بأكملها. وأشار التقرير إلى أن إسرائيل كانت تحصل على منح تفوق حتى ما تحصل عليه دول كبرى مثل ألمانيا وفرنسا وهولندا، بفضل شبكات التعاون المتغلغلة داخل الجامعات الأوروبية.

الخلفية العسكرية والاتهامات الأخلاقية
ليست المقاطعة ناتجة فقط عن الممارسات العسكرية في غزة، بل بسبب الدور النشط للجامعات الإسرائيلية في تطوير منظومات الأسلحة والعقائد العسكرية المستخدمة في جرائم الحرب. فقد أكدت “حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS)” أن الجامعات، وعلى رأسها “تخنيون”، تشارك في تطوير الطائرات المسيرة والجرافات التي تُستخدم في هدم المنازل الفلسطينية.
الحركة أوضحت أن هذه الجامعات تبرر الاحتلال والتطهير العرقي عبر دراسات “علمية” مُفصلة تُستخدم لتسويق الجرائم أمام المؤسسات الدولية، مقابل تمويلات ضخمة من جهات أكاديمية أوروبية وأميركية.
تأثير ممتد ومستقبل أكاديمي قاتم
دراسات دولية، منها دراسة لمؤسسة “راند” الأميركية، حذرت منذ عام 2015 من أن نجاح حملة المقاطعة قد يكبد إسرائيل خسائر تصل إلى عشرات المليارات من الدولارات خلال عشر سنوات. اليوم، بعد سبع سنوات، يبدو أن هذا التهديد بات واقعًا ملموسًا، وأن المقاطعة الأكاديمية لم تعد مجرد احتجاج رمزي، بل أداة حقيقية للضغط والمحاسبة.
في ضوء هذا المشهد، تجد إسرائيل نفسها محاصرة أكاديميًا كما هي عسكريًا وسياسيًا، في وقت تتسع فيه رقعة التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني، ويزداد فيه وعي الجامعات والمؤسسات الأكاديمية بدورها الأخلاقي في مواجهة الاحتلال.
مقالات ذات صلة: مقاطعة أكاديمية غير مسبوقة: الجمعية الدولية لعلم الاجتماع تعلق عضوية إسرائيل











