بينما تتواصل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، تشهد إسرائيل موجة متنامية من المقاطعة الاقتصادية والثقافية والدبلوماسية، تأتي من شركات ومؤسسات ومجالس نيابية في أوروبا، احتجاجًا على انتهاكاتها الجسيمة لحقوق الإنسان وارتكابها لجرائم حرب وإبادة جماعية ضد الفلسطينيين. هذه المقاطعة التي كانت لسنوات محدودة وموسمية، بدأت اليوم تأخذ طابعًا أكثر انتظامًا واتساعًا في مختلف القطاعات.

كبرى المتاجر تسحب منتجات إسرائيلية
أعلنت سلسلة المتاجر التعاونية البريطانية “كوب” (Co-op)، التي تدير أكثر من 2300 متجرًا في المملكة المتحدة وأوروبا، عن وقف شراء المنتجات والسلع من إسرائيل، ضمن قرار أوسع يشمل 17 دولة تُتهم بانتهاك منهجي لحقوق الإنسان، من بينها إيران وروسيا وسوريا وميانمار. القرار، الذي بدأ تطبيقه التدريجي في يونيو 2025، يشمل 100 منتج، منها الجزر الإسرائيلي، والطحينة، والفول السوداني، ومكونات من شركة صودا ستريم الإسرائيلية.
القرار جاء بناءً على تقييمات من منظمات دولية أبرزها الأمم المتحدة، ويعكس إجماعًا متزايدًا داخل الأوساط الاستهلاكية البريطانية على ضرورة اتخاذ موقف من ما يجري في غزة. نحو 75% من أعضاء سلسلة “كوب” صوّتوا لصالح حظر المنتجات الإسرائيلية في اجتماع سنوي داخلي، ما دفع الإدارة إلى اعتماد سياسة جديدة تقضي بإزالة المنتجات أو مكوناتها التي تأتي من دول محل انتقاد دولي، والتركيز على تعزيز تجارة عادلة تراعي القيم الإنسانية.
وفي خطوة رمزية، بدأت متاجر “كوب” في إيطاليا عرض مشروب جديد يحمل اسم “كولا غزة”، ويُخصص جزء من عائداته لدعم المشاريع الإنسانية في الأراضي الفلسطينية. المبادرة لاقت صدى واسعًا في الإعلام الإيطالي واعتُبرت بمثابة دعم علني للفلسطينيين من جهة، وانتقاد مباشر للسياسات الإسرائيلية من جهة أخرى.
معرض لوبورجيه الفرنسي للسلاح يغطي السلاح الإسرائيلي بالأسود!
وفي تطور غير مسبوق على الصعيد الصناعي والدفاعي، قررت الحكومة الفرنسية مؤخرًا تقييد مشاركة شركات إسرائيلية في معرض لوبورجيه الجوي الدولي، الذي يُعد من أهم وأضخم الفعاليات في مجال الصناعات الدفاعية. الحكومة أصدرت قرارًا بمنع عرض الأسلحة الهجومية، مبررةً القرار بأنه يأتي على خلفية رفضها للأعمال العسكرية الإسرائيلية في غزة وحرمان السكان من المساعدات الإنسانية، معتبرة أن “ما يحدث في غزة كارثة إنسانية تتطلب موقفًا أخلاقيًا واضحًا” وبأنّه لا يعقل أخلاقيًا عرض أسلحة هجومية تقتل المدنيين.
شركات إسرائيلية كبرى مثل شركة صناعات الفضاء الإسرائيلية (IAI) و”رافائيل” و“إلبيت معرخوت” كانت قد حجزت أجنحة وعرضت نماذج من أسلحتها، إلا أن السلطات الفرنسية أمرت بتغطية منصاتها بأقمشة سوداء ومنعت دخول الزوار إليها. النائب الاشتراكي ستيفان تروسيل وصف قرار فرنسا بأنه “رسالة احتجاج أخلاقية وسياسية”، مشددًا على ضرورة استبعاد إسرائيل من جميع الفعاليات المستقبلية في إقليم سين سان دوني، حيث يُقام المعرض. ورغم استئناف الشركات للقرار أمام المحكمة، إلّا أنّ المحكمة حكمت أن القرار ليس من صلاحياتها، ويعود للحكومة الفرنسية.
المعماريون يدخلون ساحة المقاطعة
على الصعيد الثقافي والمهني، وجّه أكثر من 670 مهندسًا معماريًا ومخططًا مدنيًا ينشطون في بريطانيا رسالة إلى المعهد الملكي للمعماريين البريطانيين (RIBA) يدعون فيها إلى تعليق عضوية إسرائيل في الاتحاد الدولي للمعماريين (UIA). منظمة “معماريون من أجل غزة” تقود هذه الحملة وتتهم إسرائيل بارتكاب “جرائم معمارية وعمرانية” في القطاع عبر التدمير الممنهج للبنية التحتية والمرافق العامة.
رغم أن هذه المبادرة لم تتحول بعد إلى مسار رسمي داخل الاتحاد، إلا أنها تعكس تحوّلًا في مواقف الأوساط المهنية الغربية التي طالما فضّلت الابتعاد عن السياسة. في المقابل، أكدت جمعية المعماريين الإسرائيليين على مواصلة الانخراط في الأنشطة الدولية، معتبرة أن “التحريض السياسي يضر بالتعاون المهني الضروري لمرحلة إعادة الإعمار في غزة وفي شمال إسرائيل على حد سواء”.

النقاش يتجاوز المقاطعة: مطالبات بالاعتراف بدولة فلسطين
إلى جانب إجراءات المقاطعة، تتزايد الدعوات البرلمانية في أوروبا للاعتراف بدولة فلسطين كخطوة ضرورية لوقف النزاع. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أعرب عن نيته المضي قدمًا بهذا الاعتراف قريبًا، رغم بعض الترددات التي شابت موقفه مؤخرًا، فيما تبنى مجلس محلي في سين سان دوني سلسلة قرارات تدعو إلى استبعاد إسرائيل من الفعاليات العامة وفرض عقوبات عليها، إلى حين وقف الحرب والسماح بإيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة.
كذلك، خلال هذا الشهر، أعلنت خمس دول غربية، هي بريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا والنرويج، عن فرض عقوبات رسمية على الوزيرين إيتمار بن غفير وبِتسلئيل سموتريتش، بسبب ما وصفته هذه الدول بـ”التحريض على العنف المتطرف” ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية. وتشمل العقوبات تجميد أصولهما المالية (مثل العقارات، الممتلكات، الأسهم) داخل تلك الدول وأموالهما في بنوكها، إضافة إلى حظر دخولهما إلى أراضيها، ومنع أي مؤسسات مالية من تلك الدول من التعامل مع الوزيرين بشكل مباشر أو غير مباشر. وهي عقوبات شبيهة بتلك المفروضة على المسؤولين الروس بعد الحرب الأوكرانية. وهو ما اعتبر خطوة غير مسبوقة في تاريخ العلاقات بين البلدين.
وما زالت إسبانيا تدعو عبر وزير خارجيتها إلى وقف الاتفاقية التجارية بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، ردًا على التجويع بحق ملايين الفلسطينيين في قطاع غزة، وقررت وزارة دفاعها تجميد صفقة تسلح ضخمة مع شركة رافائيل الإسرائيلية بقيمة تقدر بحوالي مليار شيكل، أي ما يعادل نحو 237.5 مليون يورو. واحتضنت الشهر الماضية قمة مشتركة في مدريد بهدف إنشاء تحالف دولي لحظر بيع الأسلحة لإسرائيل ومقاطعتها تجاريًا.
تدل هذه التحركات على أن خطاب المقاطعة لم يعد حكرًا على النشطاء والمنظمات الحقوقية، بل أصبح جزءًا من سياسات شركات كبرى ودول وازنة. إسرائيل تواجه اليوم تحديًا متعدد الأوجه: اقتصاديًا، ثقافيًا، ومهنيًا، في ظل استمرار الحرب وغياب أفق دبلوماسي واضح. ورغم أن بعض الخطوات لا تزال رمزية، إلا أن اتساع رقعة المقاطعة يشير إلى تحوّل نوعي في الرأي العام الغربي، الذي يطالب بمحاسبة دول وشركات على خلفية انتهاك القانون الدولي وحقوق الإنسان.
مقالات ذات صلة: إذا استمرت الحرب في غزة، فإن كل أصل مرتبط بكلمة “إسرائيل” سيفقد قيمته











