
كما هو الحال في النقاش الذي جرى قبل أيام حول إدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة، كان النقاش العام والسياسي يوم الثلاثاء حول تصريحات رئيس حزب الديمقراطيين يائير غولان، الذي تحدث عن دولة “تقتل الأطفال كهواية”، ناقصًا.
بداية، كان ناقصًا على المستوى الأخلاقي. فقد انشغل الجميع تقريبًا بالجانب النفعي لإسرائيل وبالأضرار السياسية التي قد تلحق بها نتيجة مشاهدة دول أخرى لمشاهد قاسية من غزة على شاشات التلفاز. قلة فقط اختارت التركيز على جوهر الأمر: هل من اللائق والأخلاقي أن تقوم لدولة في عصرنا الحالي أن تُجوّع كبار السن والنساء والأطفال؟ هل من اللائق أن تكون أصابع دولة عصرية خفيفة هكذا على الزناد وتقتل عشرات الأشخاص يوميًا، بمن فيهم الأطفال، حتى وإن كانت “حربها عادلة”؟
لم يجر نقاش حول هذا السؤال الأساسي، بمعزل عن السياسة والعلاقات الدولية. لقد كانت الإجابة الرئيسية في الرد على سؤال لماذا يُفضّل عدم تجويع سكان غزة وتجنّب قتل الأطفال؟ هي: حتى يسمح لنا العالم بـ”إنهاء المهمة”، ولم يتم تناول السؤال الأخلاقي بحد ذاته، الذي يختار الكثيرون تجنّبه.
قضية الضرر الاقتصادي الناجم عن أفعال الحكومة والجيش في غزة غابت هي الأخرى عن النقاش العام. وهنا من الأسهل سد هذا النقص. لنبدأ بالنرويج: بفضل الأرباح الناتجة عن استخراج النفط في بحر الشمال، تمتلك النرويج أكبر صندوق ثروة وطنية في العالم، بقيمة إجمالية تبلغ حوالي 1.8 تريليون دولار، وخلال الأشهر الأخيرة قررت تصفية وبيع حصصها في عدد من الشركات الإسرائيلية، بسبب ممارسات إسرائيل في غزة والضفة الغربية.
هذا الشهر، أعلن الصندوق أنه صفّى كامل حصته في أسهم شركة باز لأنها تعمل في المستوطنات. في ديسمبر 2024، باع الصندوق جميع حصصه في شركة بيزك. وقبل ذلك، في أغسطس 2024، وبناءً على قرار المحكمة في لاهاي بشأن ارتكاب إسرائيل لجرائم حرب، قرر الصندوق دراسة بيع حصصه في “عدة شركات”.
وبحسب موقع الصندوق، ففي نهاية عام 2024، كان يمتلك أصولًا إسرائيلية بقيمة إجمالية تبلغ حوالي 1.7 مليار دولار موزعة على عشرات الشركات، من بينها بنك هبوعاليم، طيفع، وآي.سي.إل (إسرائيل للكيماويات). وكذلك فعلت صناديق أخرى، وطنية وخاصة. مثل صندوق الثروة الإيرلندي، وهو أصغر بكثير، الذي أعلن قبل عام بالفعل أنه سيبيع جميع حصصه في البنوك الإسرائيلية الخمسة الكبرى وفي شبكة متاجر رامي ليفي.

في اليابان، دعا السياسيون الصناديق إلى بيع سندات الحكومة الإسرائيلية. كما خفضت صناديق خاصة أخرى، لا تفصح عن سياسات استثمارها، استثماراتها في الأصول الإسرائيلية، كل منها وفقًا لتوجيهات مجلس إدارتها وميوله السياسية. كل هذه الإجراءات اتخذت حتى قبل أن يعلم العالم بوجود مجاعة في غزة.
المغزى بسيط: بمجرد أن تقرر أطراف متزايدة حولل العالم التنصل من أفعال إسرائيل، فإن أحد أول الأشياء التي يقومون بها هو اتخاذ قرار بعدم الاستثمار في الأوراق المالية الإسرائيلية. والنتيجة هي أن قيمة الشركات في البورصة وعائدات السندات الإسرائيلية ستتحمل عبء “خصم” كبير، حيث سيتم تداولها بأقل بكثير من القيمة التي كانت ستُمنح لها لو كانت تابعة لدولة أخرى، “طبيعية”.
انزلاق خطير
هذا الاتجاه، الذي غالبًا ما يبدأ صغيرًا كما هو الحال مع الصندوق النرويجي، يكتسب زخمًا بسرعة. هذا الأسبوع، أعلنت عدة دول أوروبية، بما في ذلك فرنسا وبريطانيا، أنها قد تفرض قريبًا عقوبات اقتصادية على إسرائيل.
أول أمس، أعلنت بريطانيا، عبر وزير خارجيتها، ديفيد لامي، أنها قررت تجميد المفاوضات بشأن تحديث اتفاقها التجاري مع إسرائيل، وكذلك استدعت السفيرة الإسرائيلية لتوبيخها بخصوص الحصار وعدم إيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة. كما أعلن الاتحاد الأوروبي أيضًا أنه سيبحث إمكانية إلغاء اتفاقية التجارة مع إسرائيل، على خلفية الشكوك حول التزام إسرائيل بحقوق الإنسان في غزة.

ردود فعل كهذه تنعكس بسرعة على البورصة وعلى قيمة الأصول. فبمجرد أن تتخذ محكمة أو حكومة موقفًا، لا يكون أمام العديد من المستثمرين خيار فعلي سوى اتباع هذا الموقف، وعاجلًا أم آجلًا، من لا يبيع أصوله الإسرائيلية يخاطر بأن يُوصم كشريك لإسرائيل.
صحيح أن الأسواق بلا قلب، وبسعر معين سيُوجد دائمًا مشترٍ لأي أصل مالي، بما في ذلك الأصول الإسرائيلية. لكن من الواضح بنفس القدر أن جميع المواطنين الإسرائيليين سيدفعون الكثير من المال مقابل تصرفات الحكومة في غزة، سواء من خلال انخفاض قيمة الأوراق المالية أو بسبب الفجوة الكبيرة مع الأوراق المالية المماثلة من دول أخرى.
إلى أي مدى يمكن أن يتسع هذا “الخصم” أو الانخفاض في قيمة الأصول الإسرائيلية؟ من الصعب الإجابة على هذا السؤال، خصوصًا لأنه لا يزال من الممكن أن تتراجع الحكومة عن قرارها بالسيطرة على غزة وتجويع السكان، لأسباب عديدة منها أن الغالبية العظمى من الجمهور تعارض ذلك. وإذا لم يحدث هذا، يمكن النظر إلى ما حدث في الماضي لدول أصبحت منبوذة في نظر العالم الغربي، العالم الذي يمتلك معظم المال.
تُعد جنوب إفريقيا، التي شهدت نظام فصل عنصري قاسٍ من منتصف القرن الماضي حتى أوائل التسعينيات، مثالًا ممتازًا، لأنه يمكن فحص ما حدث هناك نتيجة لنظامها العنصري. ففي الثمانينيات، في ذروة الفصل العنصري وأثناء موجة من الاضطرابات في البلدات التي يقطنها السكان السود، كانت الأسهم في بورصة جوهانسبرغ تُتداول بخصم يتراوح بين 30% و50% مقارنة بالدول الأخرى ذات التطور والتنمية المشابهة.

في سوق السندات، سُجّلت ظاهرة مماثلة. تم تداول سندات الحكومة الجنوب أفريقية وسندات الشركات هناك بأسعار تعكس عوائد أعلى بنسبة تتراوح بين 2-6 نقاط مئوية من الأوراق المالية للدول المشابهة. كما عكس سعر العملة عزوف العالم عن النظام الحاكم في جنوب أفريقيا. فبين عامي 1961 و1980، انخفضت قيمة عملة جنوب أفريقيا بنسبة 80% مقارنة بسلة من العملات الأخرى.
عندما يبدأ ذلك، تنهار جميع المؤشرات في سوق رأس المال للدولة المنبوذة بسرعة أيضًا. تنخفض أحجام التداول، وتنخفض مضاعفات الأرباح لشركات البورصة، وترتفع هوامش المخاطرة، ويجف السوق بأكمله.
لا ينبغي أن يكون لدى أحد أي شك. إذا واصلت إسرائيل سياستها وأفعالها في غزة، فلا يوجد أي سبب يمنع تكرار ما حدث لسوق المال في جنوب أفريقيا – التي كانت آنذاك دولة غنية بموارد طبيعية كثيرة وذات علاقات وطيدة مع المركز المالي في لندن- أن يحدث أيضًا لإسرائيل. العديد من الصناديق ستبيع أوراقها المالية الإسرائيلية، وستفرض دول عقوبات اقتصادية على إسرائيل، والنتيجة ستكون انخفاضًا بالغًا في القيمة، لكل أصل مرتبط بكلمة “إسرائيل”: كالأسهم، والسندات، والشركات خاصة، والشركات ناشئة، بل وحتى عقارات.
لا تصدقون؟ اسألوا أنفسكم السؤال التالي: هل كنتم ستشترون أوراقًا مالية لدولة، لنقل في أميركا الجنوبية أو في آسيا، ترتكب في دولة مجاورة أفعالًا يصفها البعض بـ”جرائم حرب”، وتُفرض عليها عقوبات من دول مهمة، وتقوم أكبر صناديق الاستثمار ببيع ممتلكاتها فيها؟ على الأرجح لا.











