/
/
نتنياهو 2025: من “أمة الابتكار” إلى “أمة الحصار”

نتنياهو 2025: من “أمة الابتكار” إلى “أمة الحصار”

أيقون موقع وصلة Wasla
wasla brands

خطاب نتنياهو الأخير لم يكن حدثًا عابرًا في روتين السياسة الإسرائيلية. هذه المرة لم يتحدث بلسان المنتصر الدائم أو بلسان الزعيم الذي يمتلك جميع الأوراق، بل بلغة مختلفة، لغة تحمل اعترافًا ضمنيًا بأن إسرائيل تدخل مرحلة جديدة من وجودها.

الرجل الذي أمضى عقودًا يسوّق نفسه كرجل اقتصاد ليبرالي، ويدفع نحو الخصخصة وجذب الاستثمارات الأجنبية، يقف اليوم ليقول إن إسرائيل تواجه عزلة دولية متنامية، وأن اقتصادها قد يتجه إلى نموذج الاكتفاء الذاتي. من “أمة الابتكار” التي تغنّى بها في المؤتمرات الدولية، إلى “سوبر سبارطة” التي تعيش على قوتها العسكرية وتشد الأحزمة على مستوى الاقتصاد والمجتمع.

c53259d3 9643 4c47 a8b1 d229316511e7
خطاب نتنياهو الأخير لم يكن حدثًا عابرًا، بل اعترافًا بدخول إسرائيل مرحلة جديدة

من Start-Up Nation إلى Super-Sparta

هذا التحول ليس مجرد تفصيل اقتصادي، بل يعكس أزمة أعمق. ففكرة الاكتفاء الذاتي ارتبطت تاريخيًا بالدول التي عانت من عزلة أو عقوبات، حيث يصبح الإنتاج المحلي ضرورة وليس خيارًا. لكن في الغالب، كانت النتائج مزيجًا من ارتفاع التكاليف وتراجع الابتكار وتضييق الحريات الاقتصادية. إسرائيل التي بنت نفسها منذ التسعينيات كاقتصاد منفتح ومندمج في العولمة تجد نفسها اليوم مضطرة للتفكير بعقلية مختلفة تمامًا، عقلية الحصار. هذه العقلية قد تمنح شعورًا بالأمان، لكنها تضعف القدرة على النمو وتجعل المواطن هو الضحية الأولى.

الأسواق التقطت الرسالة سريعًا. بورصة تل أبيب تراجعت، والمستثمرون باتوا أكثر حذرًا. قطاع التكنولوجيا “الهايتك” الذي لطالما كان فخر إسرائيل وعنوانها في العالم، يواجه احتمال تراجع جاذبيته بسبب سمعة الدولة وسياساتها. فشركات الابتكار تحتاج إلى بيئة عالمية مفتوحة، إلى شراكات وتدفقات رأسمال، لا إلى جدران عالية ومناخ سياسي متوتر. وفي حين قد تستفيد الصناعات العسكرية من ضخ الموارد، فإن الاقتصاد المدني يفقد أحد أعمدته الأساسية، ومعه تتراجع فرص التشغيل والنمو.

لكن البعد الاقتصادي ليس وحده في المشهد. خطاب نتنياهو يأتي في ظل حرب غزة المستمرة منذ 2023، الحرب التي كشفت حدود القوة الإسرائيلية وعمّقت الشرخ مع العالم. صور الدمار والضحايا تحولت إلى أداة لمحاصرة إسرائيل أخلاقيًا وسياسيًا، وهذا ينعكس اقتصاديًا بوضوح. لم تعد العزلة نتيجة مواقف معادية من هنا وهناك، بل نتيجة سياسات ميدانية جعلت إسرائيل هدفًا لمقاطعات وضغوط دولية، وعنوانًا للنقاش في المؤسسات القضائية العالمية.

خالد تيتي
المحامي خالد تيتي

وفي الداخل، تتسع الفجوة بين السلطة والمجتمع. المواطن الإسرائيلي يكتشف أن “سوبر سبارطة” ليست مجرد شعار، بل نمط حياة يومية يعني ضرائب أعلى وأسعارًا أغلى وخدمات أقل. التركيز على الأمن يأتي على حساب التعليم والصحة والبنى التحتية، والطبقات الوسطى التي استفادت من الانفتاح سابقًا تجد نفسها اليوم محاصرة بين التضخم والقلق السياسي. أما الفلسطينيون في الداخل، فسيعيشون شعورًا متزايدًا بالحصار، مواطنة مشروطة بالولاء الدائم، وحياة يومية يغلفها الارتياب والتمييز.

نتنياهو لم يعلن فقط عن خطة اقتصادية، بل عن إعادة تعريف لهوية الدولة. إسرائيل لم تعد تريد أن تُرى كدولة ليبرالية مبتكرة، بل كحصن عسكري قادر على الصمود وحده. هذا التحول يحمل مفارقة لافتة: الدولة التي كانت تفاخر بكونها نموذجًا للحرية الاقتصادية والانفتاح، تتحول إلى دولة تضع البقاء فوق كل اعتبار آخر. قوة عسكرية بارزة، لكنها تفقد السردية التي منحتها شرعية في نظر العالم.

ما نراه اليوم ليس انهيار إسرائيل، بل نهاية صورتها كما عرفها الغرب لعقود. من دولة تبيع نفسها كوجهة استثمار وابتكار، إلى دولة تبيع نفسها ككيان عسكري قادر على الصمود في عزلة. والسؤال المطروح أمام الاقتصاد والمجتمع معًا: إلى أي مدى يمكن لدولة أن تعيش على السلاح وحده، بينما تفقد قدرتها على إقناع نفسها والعالم بأنها دولة طبيعية؟

*المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر موقع وصلة للاقتصاد والأعمال.

مقالات مختارة