ضربة أقوى من كورونا: البتراء مجددًا بلا سياح

مئات السكان في مدينة البتراء فقدوا مصدر رزقهم منذ السابع من أكتوبر، بعدما عانى قطاع السياحة من انعدام الزوار، وتُرِكَت البلدات المحيطة بالموقع الأثري تكافح من أجل البقاء.
أيقون موقع وصلة Wasla
أون داهن
معهد ڤان لير
1 3
البتراء القديمة. 15 من أصل 70 فندقًا ونُزُلًا في المنطقة أُغلقت، تصوير: عادل حنا / أسوشيتد برس

في الأوقات الطبيعية، كانت البتراء — الموقع السياحي الأكثر شعبية في الأردن، والمُعترف به كموقع تراث عالمي من قبل اليونسكو — تستقبل آلاف السياح من جميع أنحاء العالم، الذين يأتون للتمتع بجمالها المذهل.

في عام 2022، زار الموقع حوالي 905 آلاف زائر، وكان يبدو أن المنطقة قد بدأت أخيرًا تتعافى من أضرار جائحة كورونا، التي ضربت بشدة قطاع السياحة في جميع أنحاء العالم، وخاصة في الأماكن والمناطق النائية، حيث تُعد السياحة شريان الحياة الوحيد لمعيشة السكان. وهكذا الحال أيضًا في مدينة البتراء، التي يعيش سكانها في نحو اثنتي عشرة بلدة صغيرة تحيط بالمدينة النبطية التاريخية.

كما مر عام 2023 بمعظمه بسلام على قطاع السياحة الأردني، مع 700 ألف سائح وزائر توافدوا إلى المدينة التاريخية ومحيطها، لكن الأمور تغيرت بعد السابع من أكتوبر والحرب التي اندلعت، حيث توقفت الأنشطة السياحية في الأردن بشكل دراماتيكي. وكما يحدث غالبًا في أوقات الحرب، تضرر قطاع السياحة بشدة في دول المنطقة، وخاصة في إسرائيل ولبنان.

2 4
البتراء القديمة، تصوير: أمير بيباوي / أسوشيتد برس

ولكن، رغم أن الأردن ليس طرفًا في الحرب، وعلى الرغم من بُعده عن ساحات القتال، فقد زادت الحرب من خوف السياح الأجانب من القدوم إلى المنطقة، وأبعدت السياح أيضًا عن الأردن. وفي السابق، اعتاد العديد من السياح — خصوصًا الحجاج المسيحيين — القيام بزيارة قصيرة إلى الأردن أو رحلة يومية إلى البتراء ضمن برنامجهم السياحي أثناء زيارتهم لإسرائيل. وهكذا ألحقت الحرب ألحقت ضررًا بالغًا بقطاع السياحة في الأردن أيضًا، ليجد العاملون في هذا القطاع أنفسهم مرة أخرى في أزمة عميقة، بعد سنوات قليلة فقط من أزمة كورونا.

من يزور اليوم إحدى البلدات الصغيرة في محافظة البتراء السياحية، حيث انخفض عدد الزوار بنسبة 75% منذ اندلاع الحرب، سيصادف محلات ومطاعم مهجورة، وفنادق ونُزُلًا تكاد تكون خالية تمامًا، وشوارع خالية من السياح إلا ما ندر.

“عندما لا توجد سياحة، لا يوجد عمل”

ساجدة زياد، مصورة وصانعة أفلام وثائقية أردنية، قامت بجولة في البتراء ومحيطها ونشرت في فبراير الماضي تقريرًا في الموقع الإلكتروني الأردني “حبر” شاركت فيه انطباعاتها عن الوضع الصعب الذي يعيشه سكان البتراء نتيجة الحرب.

في مستهل تقريرها، أوردت زياد معطيات صعبة عن قطاع الفنادق في المنطقة نقلًا عن عبد الله الحسنات، رئيس جمعية فنادق البترا، حيث أوضح أن 15 من أصل 70 فندقًا ونُزُلًا في المنطقة قد أُغلقت، وأن الفنادق التي لا تزال تعمل تشغل فقط نحو 10% من طواقمها، وذلك في محاولة للبقاء والصمود خلال هذه الفترة العصيبة.

تُشير ساجدة زياد إلى أن مئات العاملين في قطاع الفنادق فقدوا وظائفهم خلال الأشهر الأخيرة. من بين هؤلاء، التقت زياد بفداء عبد الرحمن، البالغة من العمر 31 عامًا، والتي كانت تعمل عاملة تنظيف في أحد المنتجعات السياحية مقابل راتب شهري قدره 200 دينار (حوالي ألف شيكل)، قبل أن يتم فصلها مؤخرًا. وقالت فداء: “طردونا لأنه لم تعد هناك أعمال ولا يستطيعون دفع الرواتب. أين سأجد عملًا الآن؟ عندما لا توجد سياحة، لا يوجد عمل في أي مكان في البلدة”.

أما العمال الآخرون الذين لم يتم فصلهم، فقد اضطروا إلى تحمل تخفيضات كبيرة في رواتبهم، وصلت في بعض الأحيان إلى ما بين 40% و70%، فيما تم إرسال البعض منهم إلى إجازة غير مدفوعة الأجر لعدة أشهر.

في تقريرها، تنقل زياد قصة علي الفلاحات، الذي كان يعمل حارس أمن في أحد الفنادق. الفلاحات وافق على تخفيض نصف راتبه الشهري، الذي كان يبلغ 400 دينار، فقط من أجل الاستمرار في العمل. إلا أنه في الشهرين الأخيرين، وبعد تراكم ديونه وعجزه عن إعالة أسرته براتبه المنخفض، طلب الخروج في إجازة غير مدفوعة الأجر بمبادرته الخاصة، من أجل العمل كسائق سيارة كهربائية داخل الموقع الأثري بدخل يعادل أجره الأصلي بالفندق، في محاولة لإعالة نفسه وأسرته بعدما تراكمت الديون عليه.

وخلال جولتها، التقت زياد بمدير فندق صغير يدعى “بترا أريتاس”، الواقع في شارع رئيسي بالقرب من الموقع الأثري الشهير. غرف الفندق كانت شبه خالية معظم الوقت، وخلال شهر يناير لم يسجل سوى أربع حجوزات إقامة، مما حقق له بالكاد 200 دينار أردني من الدخل.

في المقابل، كانت مصاريف الفندق، من فواتير الكهرباء والمياه ورواتب الموظفين، تبلغ نحو 2000 دينار شهريًا، مما اضطره إلى فصل ثمانية من موظفيه، ليبقى مع اثنين فقط. وقال بحزن: “إذا استمر الوضع على هذا الحال لأربعة أو خمسة أشهر أخرى، سأضطر إلى إغلاق الفندق”.

الضرائب والقروض

ويضاف إلى كل المصاعب المذكورة سابقًا عبء سداد القروض للبنوك، الذي يتزايد شهرًا بعد شهر، حيث لم يعد أصحاب الفنادق والأعمال السياحية قادرين على تحمله في الأشهر الأخيرة.

في تقريرها، قابلت ساجدة زياد أصحاب أعمال مختلفين افتتحوا فنادق ودور ضيافة ومطاعم ومغاسل بالقرب من الفنادق، بعد أن بدا أن قطاع السياحة في البلاد قد تعافى من أزمة كورونا. إلا أن هؤلاء أصحاب الأعمال وجدوا أنفسهم الآن في ضائقة اقتصادية خانقة، بعدما أخذوا قروضًا لتمويل إنشاء مشاريعهم، لكنها انهارت في وقت أبكر مما توقعوا – في بعض الحالات خلال بضع سنوات فقط، وأحيانًا خلال بضعة أشهر.

3 3
البتراء القديمة، تصوير: غيل إلياهو

خلص، التوبة، حتى لو رجعت السياحة ما رح استثمر فيها“، قال معتصم الهلالات، مستثمر وصاحب عمل افتتح مطعمًا في منطقة البتراء بداية عام 2023 بعد أن آمن أن قطاع السياحة قد تعافى، لكنه اضطر إلى إغلاقه وهدم المبنى خلال وقت قصير بسبب الوضع.

بعض أصحاب الأعمال الذين التقت بهم زياد شاركوها عن المعاملة السيئة التي تلقوها من البنوك مؤخرًا في ظل الأزمة. إبراهيم النوافلة، صاحب فندق ضيافة، أدرك أن أشهرًا جافة من الناحية التجارية تنتظره، وقرر استغلالها لتجديد فندقه الخالي، لكنه أصيب بخيبة أمل عندما اكتشف أن البنوك أدارت له ظهرها ورفضت منحه، ولأصحاب أعمال آخرين مثله، قرضًا خلال هذه الأزمة الحالية.

كثيرون من أصحاب الأعمال في المنطقة يكررون أن الأزمة الحالية “أصعب من كورونا”، التي تضررت فيها أنشطتهم التجارية بشكل كبير أيضًا بسبب قيود الحركة والإغلاقات التي فرضتها الحكومة. تذكّر زياد أن الحكومة خلال أيام كورونا اتخذت خطوات مختلفة لتخفيف الضرر الذي لحق بقطاع السياحة، مثل تخفيض ضرائب مختلفة أو منح إعفاءات ضريبية معينة لقطاع السياحة وللأعمال السياحية العاملة في محافظتي البتراء والعقبة، حيث تُعد السياحة مصدر الرزق الرئيسي.

وخلال أزمة كورونا، أطلق مؤسسة الضمان الاجتماعي الأردني برامج مختلفة لدعم العاملين في المؤسسات التي تضررت بشدة نتيجة الأزمة أو للعاملين في مؤسسات مُنعوا من مزاولة عملهم خلال تلك الفترة بسبب القيود المختلفة التي فُرضت. أما في الوضع الحالي، يُضطر أصحاب الأعمال إلى تحمل كامل الخسائر الاقتصادية التي تلحق بهم بأنفسهم.

تشير زياد إلى أن الدعم الحكومي الحالي المقدم لأصحاب الأعمال المتضررين يقتصر على الإعفاء من دفع بعض الضرائب أو رسوم التأمين الوطني والتأمين الصحي، أو تأجيل موعد الدفع، أو توزيع المدفوعات على فترة أطول من المعتاد لعدة أشهر قادمة.

كذلك، أمرت الحكومة بمنح أصحاب الأعمال في محافظة البتراء إعفاءً من دفع رسوم التراخيص لعام 2025 بهدف التخفيف عن الأعمال العاملة في قطاع السياحة، لكنها تشير إلى أن هذا القرار لم يُنفذ فعليًا بعد.

الأردن للأردنيين

في تقريرها، تشير زياد إلى البرنامج الذي أطلقته هيئة تنشيط السياحة لتعزيز السياحة الداخلية بتمويل جزئي من الدولة – إذ إنه، كما في فترة أزمة كورونا، تُعد السياحة الداخلية حالياً المورد الرئيسي القادر على مساعدة قطاع السياحة المحلي في المملكة على البقاء.

البرنامج، الذي يحمل اسم “أردننا جنة”، يقدم برامج سياحية متنوعة في جميع أنحاء البلاد، تشمل النقل والإقامة بنظام نصف إقامة في فنادق من فئتي نجمتين إلى خمس نجوم، بهدف تشجيع الأردنيين – وخاصة من ذوي الدخل المنخفض – على السفر داخل وطنهم والإقامة في فنادق المملكة بأسعار معقولة.

4 2
البتراء القديمة. يطالب أصحاب الأعمال في المنطقة بتخفيض تكلفة دخول الموقع تصوير: Aleksandra H. Kossowska / Shutterstock

على الرغم من النوايا الحسنة للبرنامج الحكومي – الذي ساعد العديد من أصحاب الأعمال في قطاع السياحة على التعافي بعد أزمة كورونا – إلا أن أصحاب الفنادق البسيطة والمتواضعة في منطقة البتراء الذين تحدثت إليهم زياد يشتكون من أن البرنامج يتجاهلهم لأنهم لا يستوفون المعايير المحددة. وبدلاً من ذلك، فإن المستفيدين من برامج السياحة الداخلية هم الفنادق الكبرى التابعة لعلامات تجارية دولية.

تطرح زياد مطالبات مختلفة وطلبات دعم نقلها إليها أصحاب الأعمال الذين التقت بهم. من بين هذه المطالب، تقليل تكلفة الدخول إلى الموقع الأثري للبتراء، وتخفيض أسعار تذاكر الرحلات الداخلية داخل المملكة. كما أشار بعضهم إلى ضرورة العمل على استعادة نشاط شركات الطيران الاقتصادي مثل ويز إير ورايان إير، اللتين أوقفتا خطوط رحلاتهما إلى الأردن عقب اندلاع الحرب.

حتى وقف إطلاق النار والتوقف المؤقت للقتال لم يدفعا أصحاب الأعمال الأردنيين للتفاؤل، واليوم مع تجدد القتال، هم أكثر تشاؤماً من أي وقت مضى. وربما أكثر من أي دولة أخرى في المنطقة، تعلم سكان الأردن – منذ الربيع العربي وأمواج اللاجئين السوريين والعراقيين الذين فروا إلى أراضيه، والآن من الحرب في غزة ولبنان – أن أي تصعيد إقليمي قد يؤثر بشكل دراماتيكي أيضاً على أوضاعهم.

أون داهن يكتب في مشروع “أفق”، وهو مبادرة مشتركة لمعهد فان لير، ومنتدى التفكير الإقليمي، ومركز إعلام في الناصرة.

المقال منشور في وصلة بإذن خاص من صحيفة هآرتس

مقالات مختارة