
تتجه الحكومة الإسرائيلية إلى المضي قدمًا في تنفيذ واحدة من أكثر الخطط إثارةً للجدل منذ اندلاع الحرب على قطاع غزة، حيث تمّ توجيه الجيش إلى الشروع في إقامة ما تُسمّى بـ«المدينة الإنسانية» في جنوب القطاع، وهي في حقيقتها منطقة ستُحوَّل إلى مخيم ضخم أشبه بقفصٍ كبير أو سجن يُحتجز فيه مئات آلاف الفلسطينيين ممن سيُجبرون على النزوح من أحياءهم وقراهم ومدنهم التي دمّرتها العمليات العسكرية المستمرة منذ أكثر من 21 شهرًا.
التقديرات الحكومية تشير إلى أن التكلفة الإجمالية لإقامة «المدينة الإنسانية» على أنقاض مدينة رفح قد تصل إلى نحو 20 مليار شيكل. هذا المبلغ الضخم يشمل ما لا يقل عن 10 مليارات شيكل لبناء البنية التحتية الأساسية من مياه وكهرباء وصرف صحي، في حين ستُخصص 10 مليارات شيكل أخرى على الأقل لتغطية تكلفة تشغيل المدينة في عامها الأول، بما في ذلك “توفير الغذاء وخدمات الرعاية الصحية وتلبية الاحتياجات الأساسية لمئات آلاف المدنيين”، بحسب الادعاءات الحكومية.
ويقف خلف هذه الخطة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، الذي يشغل أيضًا منصب وزير ثانٍ في وزارة الدفاع، ويحظى المشروع بدعم الجناح الأكثر تطرفًا في الائتلاف الحكومي الحالي الذي يدفع باتجاه مواصلة الحرب على غزة رغم الثمن الإنساني والسياسي والاقتصادي الباهظ.
المخطط الذي ناقشه الكابينت في اجتماع عُقد قبل أيام، يهدف إلى نقل ما بين 600 إلى 700 ألف فلسطيني إلى هذا التجمع المغلق الذي سيُقام شمال محور فيلادلفيا، قرب الحدود مع مصر، وجنوب محور موراغ (ممر صوفا)، الذي سيفصل «المدينة الإنسانية» عن بقية أجزاء القطاع. هذه المنطقة ستخضع لسيطرة مباشرة من الجيش الإسرائيلي وجهاز الأمن العام «الشاباك»، الذي سيشرف على تنظيم دخول المدنيين الفلسطينيين إليها بشكل يضمن “عدم دخول أي مقاتلين من الفصائل الفلسطينية”.
وفقًا للمعلومات المسربة من الاجتماعات الحكومية، فإن سكان «المدينة الإنسانية» سيُضطرون للعيش في خيام كبيرة تُقام فوق ركام أحيائهم المدمرة، في ظل قيود مشددة على تحركاتهم. إذ إن الخروج من هذا المخيم لن يكون متاحًا إلا في اتجاه واحد، وهو خارج قطاع غزة في حال وافقوا لاحقًا على «الهجرة الطوعية» التي تخطط إسرائيل للترويج لها باتجاه دول أخرى قد تُعرَض عليها استقبال هؤلاء اللاجئين المرهقين من الحصار.
التقديرات الأولية التي عُرضت في جلسة خاصة جمعت بين المدير العام لوزارة الدفاع، وكبار مسؤولي وزارة المالية، أظهرت أن تنفيذ هذه الخطة يعني تعميق تورط الجيش الإسرائيلي في القطاع، إذ ستُضاف أعباء لوجستية وإنسانية هائلة إلى كاهله، في وقت يعاني فيه أصلاً من إرهاق كبير بعد حرب طويلة مستمرة منذ السابع من أكتوبر 2023.
وتشير أصوات داخل قيادة الجيش إلى أن إبقاء القوات في حالة تماس مباشر ويومي مع عشرات آلاف العائلات الفلسطينية في هذا المخيم قد يُعرّض الجنود لمخاطر أمنية وأخلاقية مستمرة، فضلًا عن تساؤلات قانونية حول التزام مثل هذه المنشآت بالقانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف. ورغم ذلك، رفض المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي التعليق على هذه المخاوف، مكتفيًا بالإشارة إلى أن «المدينة الإنسانية» ستراعي ما يُسمّى المعايير الدولية.
إلا أن الانتقادات لا تأتي فقط من داخل المؤسسة العسكرية، بل إن محللين يرون أن هذا المشروع الذي يحاول تسويق نفسه كـ«حل إنساني» سيضاعف من عزل غزة ويحوّل جزءًا كبيرًا من أهلها إلى محتجزين في منطقة مغلقة ومنكوبة إنسانيًا، مع تصاعد احتمالات استخدام المشروع كذريعة لتوسيع العمليات العسكرية في مناطق أخرى من القطاع بعد إفراغها من السكان المدنيين، وقد يُصوّر جميع السكان الذين يرفضون مغادرة مناطقهم إلى هذه المدينة الجديدة على أنهم مقاتلين فلسطينيين، ما يعطي ذرائع لتبرير استهدافهم ونزع الإنسانية عنهم حتى لو كانوا مجرد مدنيين يرفضون نزوحًا جديدًا آخر، أو تهجيرًا بغطاء إنساني.
وفي السياق ذاته، لا يغيب عن المشهد البُعد الدولي، إذ حذرت جهات أمنية إسرائيلية من أن مثل هذه الخطوة قد تزيد من عزلة إسرائيل سياسيًا وتفاقم موجة الانتقادات التي تتعرض لها من عواصم أوروبية كثيرة. بعض التقديرات تشير إلى أن دولًا أوروبية قد تجد نفسها مضطرة للضغط على إسرائيل عبر تقييد صادرات الأسلحة وقطع الغيار الحساسة، ما من شأنه أن يُضعف قدرات التصنيع العسكري التي تعتمد بدرجة كبيرة على مكوّنات وتقنيات مستوردة من الغرب.
مقالات ذات صلة: وُصِفت بالغيتو وبمعسكر اعتقال: “المدينة الإنسانية” على أنقاض رفح تفاقم الخلافات حول ميزانية الجيش











