الملك ترمب ضد سوق السندات

أيقون موقع وصلة Wasla
كينيث روجوف
كبير خبراء الاقتصاد الأسبق لدى صندوق النقد الدولي، هو أستاذ الاقتصاد والسياسة العامة في جامعة هارفارد
كينيث روجوف
الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، الصورة: ويكيميديا

في العصور الوسطى، كان مهرج البلاط هو من يتجرأ غالبا على التصريح بالحقائق غير المريحة للملك. أما في البلاط المصطنع الذي يضم الرئيس الأميركي الطامع في الـمُـلك دونالد ترمب، فيعود هذا الدور إلى سوق السندات.

بينما يتجه مشروع قانون الضرائب والإنفاق، الذي منحه ترمب عنوان “الكبير، الجميل”، نحو الإقرار في الكونجرس الأميركي، يبدو من الواضح تماما أنه لن يفعل أي شيء لكبح جماح العجز المالي الذي بلغ 6.4% من الناتج المحلي الإجمالي والـمُـسَـجّـل في عهد الرئيس السابق جو بايدن في عام 2024. على العكس من ذلك، تنذر ميزانية ترمب في الأرجح بعجز يبلغ في المجمل 7% من الناتج المحلي الإجمالي أو أكثر في الفترة المتبقية من ولايته ــ باستثناء الصدمات الكبرى مثل اندلاع جائحة، أو أزمة مالية، أو حرب، والتي قد يتسبب أي منها في دفع العجز إلى مستويات أعلى.

لطالما أبدى المستثمرون الدوليون شهية لا تشبع لسندات الخزانة الأميركية، التي يُنظر إليها على نطاق واسع على أنها الملاذ الآمن الـمُـطـلَق. ولكن بعد أن وصلت ديون الحكومة الفيدرالية إلى 122% من الناتج المحلي الإجمالي ــ وجزء كبير منها من المقرر أن يُـرَحَّـل في الأشهر المقبلة ــ قد لا تستمر هذه الشهية لفترة أطول. الواقع أن العائد على السندات الأميركية لأجل 30 عاما يحوم حول 5%، بينما يبلغ العائد على السندات لأجل عشر سنوات حوالي 4.5%، وكلاهما مرتفع بنحو نقطتين مئويتين زيادة عن العقد الماضي. وبالتالي، فإن مدفوعات الفائدة على الديون الحالية آخذة في الارتفاع وتجاوزت بالفعل الإنفاق الدفاعي.

الآن، يجب أن يكون من الواضح أن أولئك الذين تعاملوا مع الديون كوجبة غداء مجانية مع عواقب ضئيلة أو معدومة على النمو في الأمد البعيد تجاهلوا حقائق اقتصادية أساسية. وكما زعمتُ لفترة طويلة، كان تطبيع أسعار الفائدة أمرا لا مفر منه. ما كان ينبغي لأحد أن يفترض أن أسعار الفائدة الشديدة الانخفاض ستستمر إلى أجل غير مسمى، ناهيك عن المراهنة على مستقبل البلاد الاقتصادي على هذا الافتراض.

ترسّخت هذه الحقيقة أخيرا حتى بين أكثر منكري الديون تعصبا. فلماذا لم تترسخ لدى ترمب، الذي كان ــ على الأقل خلال فترة ولايته الأولى ــ برجماتيا اقتصاديا في عموم الأمر، ومستعدا لتغيير المسار عندما تفشل سياساته في تحقيق النتائج المرجوة؟

الجواب هو أن ترمب واقعي سياسي أيضا. فهو يدرك أن الشعب الأميركي ليس مستعدا ببساطة لقبول أي شيء يشبه “التقشف” ــ وهو المصطلح الذي يستخدمه التقدميون كلما اقترح شخص ما أن هناك مفاضلة بين الفوائد القصيرة الأجل للتحفيز الممول بالديون وتكاليفه في الأمد البعيد.

يزعم ترمب وأعوانه أن “مشروع قانونه الكبير والجميل” سيشحن النمو الاقتصادي، ويولد ما يكفي من الإيرادات للتعويض عن التخفيضات الضريبية الكاسحة. لكن التاريخ لا يدعم مثل هذه الادعاءات. فبينما تسببت فورات الإنفاق بقيادة الديمقراطيون والتخفيضات الضريبية التي دعمها الجمهوريون في زيادة الدين الأميركي على مدار السنوات العشرين الأخيرة، فإن التخفيضات الضريبية كانت تشكل نصيب الأسد في الزيادة. علاوة على ذلك، فَـقَـدَت الفكرة القائلة بأن التخفيضات الضريبية تغطي تكاليفها بنفسها مصداقيتها بالفعل في ثمانينيات القرن العشرين، عندما أدت تخفيضات الرئيس رونالد ريجان الضريبية إلى ارتفاع العجز بدلا من النمو الداعم لذاته.

هل تؤدي ديون أميركا المتزايدة الارتفاع المتزايدة في نهاية المطاف إلى أزمة تامة النضج؟ ربما، لكن استمرار انجراف أسعار الفائدة الطويلة الأجل تصاعديا هو الأرجح. ولن يحل ترمب المشكلة بالضغط على الاحتياطي الفيدرالي لحمله على خفض أسعار الفائدة القصيرة الأجل. فما لم ينزلق الاقتصاد إلى حالة من الركود، لن يكون أمام الاحتياطي الفيدرالي مجال كبير لخفض أسعار الفائدة دون تأجيج التضخم ـ ولن يؤدي ارتفاع التضخم إلا إلى تسريع ارتفاع أسعار الفائدة الطويلة الأجل.

يتغذى ارتفاع أسعار الفائدة الحقيقية على الدين العالمي المتضخم، وانعدام الاستقرار الجيوسياسي، والنفقات العسكرية المتزايدة، وتصدع التجارة المتعددة الأطراف، ومتطلبات الذكاء الاصطناعي من الطاقة، والسياسة المالية الشعبوية. وفي حين قد تفرض القوى التعويضية مثل التفاوت والعوامل المرتبط بالتركيبة السكانية بعض الضغوط التي تدفع أسعار الفائدة إلى الهبوط، فإنها من غير المرجح أن تعوض عن هذه العوامل البنيوية والسياسية في أي وقت قريب. كما أن توقعات التضخم من المنتظر أن ترتفع إذا بدت الحكومات غير قادرة أو غير راغبة في وضع الديون تحت السيطرة.

يتمثل عامل آخر ربما يعزز أسعار الفائدة، وخاصة في الولايات المتحدة، في سعي ترمب إلى إغلاق الاقتصاد المحلي. في نهاية المطاف، يُـضاهى العجز التجاري المتواصل عادة بتدفقات رؤوس الأموال الأجنبية التي تساعد في تمويله. ولكن إذا تقلصت تلك التدفقات، فسوف تزداد أسعار الفائدة ارتفاعا.

من المؤكد أن الأمر لا يدور حول ترمب فحسب. فقد كانت أسعار الفائدة في ارتفاع بشكل حاد بالفعل أثناء ولاية بايدن. ولو فاز الديمقراطيون بالرئاسة ومجلسي الكونجرس في عام 2024، لكانت التوقعات المالية الأميركية تصبح قاتمة بذات القدر في الأرجح. وإلى أن تحدث أزمة، لن تنشأ إرادة سياسية قوية للتصرف حيال ذلك، وأي زعيم يحاول السعي إلى التعزيز المالي سيواجه خطر التصويت لإخراجه من منصبه.

ولكن ما الهيئة التي قد تتخذها مثل هذه الأزمة؟ كما شرحت في كتابي الأخير دولارنا، مشكلتكم“، تعتمد الإجابة على طبيعة الصدمة التي تسببها وكيفية استجابة الحكومة لها. هل يلجأ ترمب إلى القمع المالي الخانق للنمو، كما فعلت اليابان ــ وبدرجة أقل أوروبا؟ أو يكون اندلاع نوبة أخرى من التضخم أكثر ترجيحا؟ في كل من الحالتين، يدق مستثمرو السندات ناقوس الخطر: إن ديون ترمب “الكبيرة، الجميلة” ستضر في نهاية المطاف بالاقتصاد الأميركي والدولار على حد سواء. وبقدر ما قد تكون هذه الحقيقة مزعجة، فإنها حقيقة لا يمكنه تجاهلها.

 ترجمة: مايسة كامل      

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، يُنشَر بإذن خاص في وصلة.

مقالات مختارة