الإنتاجية الحقيقية لا تأتي من الأساليب الآمنة، بل من المراهنات الجريئة

أيقون موقع وصلة Wasla
كريس برادلي وجان ميشكي
كريس برادلي مدير معهد ماكنزي العالمي. وجان ميشكي شريك معهد ماكنزي.
صورة توضيحية - "سيليكون ڤالي"
الدراسة ركزت على التوسع الاستراتيجي الذي حققته شركة Apple، الصور: أبل بارك، المصدر: ويكيميديا

قليلون هم من يشُـكّون في أن نمو الإنتاجية مفيد للمجتمع. فهو يُترجم عموما إلى أجور أعلى، وفائض للمستهلكين (أسعار أقل مما ترغب في دفعه)، وأرباح أكبر، وقيمة أكبر للمساهمين. بيد أن ما لا يفهمه كثيرون هو كيفية تحقيق نمو الإنتاجية. يُظهر بحث جديد من معهد ماكنزي العالمي أن حصة الأسد تأتي من قِـلة من الشركات التي تُـقدِم على اتخاذ خطوات جريئة.

ولكن في حين يؤكد الرأي السائد إن نمو الإنتاجية ينبع من تحسينات تدريجية جماعية للكفاءة في عدد كبير من الشركات، فإن تحليلنا يشير إلى خلاف ذلك. الواقع أن عددا ضئيلا من الشركات تقود دفعات قوية من التقدم، لأنها اتخذت خطوات استراتيجية جريئة وفريدة من نوعها تجبر المنافسين على الاستجابة. فبدلا من أن تتحرك ألف شركة أو مليون شركة بوصة واحدة، تأتي المكاسب الحقيقية من قِـلة من الشركات الاستثنائية التي تتحرك آلاف الأميال.

اعتمدنا في تحليلنا على 8300 شركة في ألمانيا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة، مع التركيز بشكل خاص على أربعة قطاعات: البيع بالتجزئة، والسيارات والفضاء، والسفر والخدمات اللوجستية، وأجهزة الكمبيوتر والإلكترونيات. وقد استخدمنا هذه الشركات لإنشاء “اقتصاد مختبري”، فتتبعنا بدقة من كان يخلق القيمة ويساهم في نمو الإنتاجية الوطنية، ومن كان يدمر القيمة من خلال خفض الإنتاجية. ورغم أننا نظرنا إلى الفترة المستقرة نسبيا بين عامي 2011 و2019 ــ بعد الأزمة المالية العالمية ولكن قبل جائحة كوفيد-19 ــ وجدنا أنماطا مماثلة في البيانات من 2019 إلى 2023.

في اقتصادنا المختبري، وجدنا أن أقل من 100 شركة “بارزة” إنتاجيا تمثل ثلثي نمو العينة. هذه شركات أضافت نقطة أساس واحدة على الأقل إلى نمو إنتاجية العينة الوطنية الخاصة بها في الفترة 2011-2019. من ناحية أخرى، وجدنا أن عددا أقل من الشركات “المتخلفة عن الركب” قدمت مساهمات سلبية بنقطة أساس واحدة على الأقل. وهذا تركيز أكثر تطرفا مما قد توحي به النظرة السائدة للإنتاجية.

ولكن ما الذي يميز الشركات المتميزة عن غيرها؟ في عيّنتنا، اتبعت هذه الشركات خمسة أساليب استراتيجية ــ مُـجَـمَّـعة غالبا ــ للمضي قدما: توسيع نطاق نماذج أعمال أو تكنولوجيات أكثر إنتاجية (مثل التجارة الإلكترونية أو نماذج شركات النقل المنخفضة التكلفة)؛ وتحويل المحافظ الإقليمية ومحافظ المنتجات نحو الأعمال الأكثر إنتاجية أو حتى الفرص في الجوار؛ وإعادة تشكيل عروض القيمة للعملاء في كل من الأسواق الجماهيرية والمتخصصة؛ وبناء تأثيرات الحجم والشبكة؛ وتحويل العمليات لتعزيز كفاءة العمل وخفض التكلفة. وهكذا، تسلط دراسات الحالة التي أجريناها الضوء على التوسع الاستراتيجي الذي حققته شركة Apple في مجال الخدمات، وشركة “EasyJet” التي تشكل اتجاه شركات الطيران المنخفضة التكلفة، وشركة “Zalando” الرائدة في تجارة الملابس الإلكترونية.

طائرة تابعة لـEasyJet، المصدر: ويكميديا
طائرة تابعة لـEasyJet، المصدر: ويكميديا

تساعدنا هذه العدسة التي ننظر بها إلى الإنتاجية على تكوين رؤية أكثر وضوحا للأسباب التي تجعل بعض الدول تتقدم بينما تتعثر دول أخرى. وفي حين أننا نعلم بالفعل أن الولايات المتحدة تتفوق على اقتصادات أوروبية كبرى فيما يتصل بنمو الإنتاجية، فإن إلقاء نظرة فاحصة على الشركات في اقتصادنا المختبري يؤكد لنا السبب. في الفترة بين عامي 2011 و2019، سجلت إنتاجية الولايات المتحدة نموا بنسبة 2.1% سنويا ضمن عيّنتنا، مقارنة بنحو 0.2% في ألمانيا وصفر ثابت في المملكة المتحدة، لأن الشركات الأميركية الأربعة والأربعين المتميزة في الولايات المتحدة فاقت الشركات الأربعة عشرة المتخلفة بمعامل ثلاثة. على النقيض من ذلك، كان التوزيع في المملكة المتحدة أكثر تكافؤا، حيث بلغ عدد الشركات المتميزة 30 والمتخلفة عن الركب 25، في حين كان عدد الشركات المتميزة في ألمانيا 13 والمتخلفة عن الركب 16.

لكن الأمر لا يتعلق فقط بوجود الشركات المتميزة؛ بل يجب تحويل الموارد نحوها. كانت الولايات المتحدة ذاتها متميزة في هذا الصدد، حيث جاء نصف نمو إنتاجيتها من إعادة تخصيص العمالة بعيدا عن الشركات المتخلفة عن الركب ونحو طليعة نمو الإنتاجية. أما في أوروبا، فكانت حركية الوظائف في أوروبا أكثر هدوءا، وتسببت الشركات المتخلفة عن الركب في تراجع نمو الإنتاجية.

تخلف هذه الرؤية تأثيرات كبرى على صنع السياسات. تسعى سياسات عديدة حالية إلى تعزيز الرفاهة من خلال دعم الشركات الصغيرة ونشر أفضل الممارسات. ولكن إذا كانت حفنة من الشركات هي التي تقود معظم المكاسب، فنحن في احتياج إلى استراتيجيات غير متماثلة لتتناسب مع النمط الذي نلاحظه. وهذا يعني تمكين إعادة تخصيص رؤوس الأموال والعمالة بسرعة أكبر، وبناء أنظمة بيئية تساعد الفائزين على التوسع. فكر في ذلك: لو كان بإمكان ألمانيا أن تحصي 19 شركة أخرى متميزة مثل شركة REWE لتجارة التجزئة في الفترة الخاضعة للتحليل، فإن نمو إنتاجية قطاعها الخاص كان ليتضاعف.

قد تكون الخطوات الجريئة المشجعة أكثر أهمية في الاقتصادات الناشئة، حيث تمتلك الشركات المتميزة القدرة على تجاوز بعض التكنولوجيات ونماذج الأعمال المعمول بها في الاقتصادات المتقدمة. علاوة على ذلك، إذا كان نوع الشركات التي من الممكن أن تصبح متميزة أقل عددا وأكثر تباعدا، فقد يكون من الصعب تحقيق نمو سريع في الإنتاجية دون الحرص على رعاية ظهور ونجاح الشركات المتميزة المحتملة.

من جانبهم، ينبغي لقادة الأعمال أن يتوقفوا عن التعامل مع الإنتاجية كمنتج ثانوي للعمليات والبدء في إدارتها كنتيجة استراتيجية. وهذا يعني تتبعها، والاستثمار فيها، واتخاذ قرارات جريئة ــ مصحوبة بتحويلات في الموارد ــ حول أين يجب أن تنمو وأين يجب أن تتراجع.

في خضم حالة انعدام اليقين الاقتصادي السائدة اليوم، تعمل الشركات في مختلف أنحاء العالم على تأجيل قرارات الاستثمار، وخفض التكاليف، ومحاولة تدبير مواردها المحدودة. بيد أن الدرس المستفاد من بحثنا هو أنها ينبغي لها أن تفعل العكس. فنمو الإنتاجية الحقيقي لا يأتي من اختيار أساليب آمنة. بل يأتي من تهيئة الظروف الملائمة لمراهنات جريئة تؤتي ثمارها.

 ترجمة: مايسة كامل     

 حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2025.
www.project-syndicate.org

مقالات مختارة