
يستعد الفاتيكان لاستقبال عهد جديد مع تنصيب البابا لاوون الرابع عشر، غير أن التحدي الأكبر الذي ينتظره ليس لاهوتيًا ولا رعويًا، بل اقتصادي بامتياز. فقد ترك البابا فرنسيس خلفه مؤسسة مثقلة بعجز مالي متفاقم، وهيكل إداري غارق في البيروقراطية، وصندوق تقاعد مُهدد بالانهيار، في وقت تبدو فيه موارد الفاتيكان غير كافية لتلبية احتياجاته الأساسية رغم ما يملكه من ثروات فنية وروحية لا تقدّر بثمن.
التقرير الموسّع الذي نشرته صحيفة وول ستريت جورنال يكشف عن أزمة بنيوية تتجاوز الأرقام إلى أزمة إدارية داخل الكرسي الرسولي. فعلى مدار 12 عامًا من حبريته، ورغم التعديلات الجوهرية التي سعى البابا فرنسيس لإجرائها، ارتفع العجز المالي ثلاثة أضعاف، ولم تُترجم الإصلاحات إلى تغيير ملموس في سلوك الإدارة أو في تعزيز الشفافية المالية.
رغم أنه أدخل مدققين محترفين، وعيّن مستشارين ذوي خلفيات مالية قوية مثل جان بابتيست دي فرانسو، إلا أن ثقافة التكتّم والممانعة ظلت سيدة المشهد. رهبان وكهنة يرفضون الالتزام بمعايير المحاسبة الدولية، ومؤسسات كنسية عريقة ترفض المساس باستقلاليتها المالية، وسط حالات موثقة من إخفاء الأموال أو استخدامها في صفقات عقارية مشبوهة، من بينها استثمار فاشل كلّف الفاتيكان نحو 200 مليون دولار.
واحدة من القضايا التي تدلّ على عمق المأزق تمثلت في اكتشاف المدقق المالي ليبيرو ميلوني اختفاء نصف مليون دولار من “مكتب العقيدة”. وبدلاً من فتح تحقيق شفاف، طُلب منه حل القضية داخل جدران الفاتيكان، في مشهد يعكس التوتر بين ثقافة المحاسبة الحديثة والموروث الكنسي المحافظ.
لكن الأمر الأشدّ إثارة للقلق هو صندوق التقاعد، إذ تشير التقديرات إلى التزامات قد تتجاوز 1.5 مليار يورو في ظل غياب مصادر تمويل مستدامة وتدهور فعالية الإدارة وزيادة النققات. وقد حذّر البابا الراحل نفسه، في رسالة موقعة قبل وفاته بأسابيع، من أن النظام يواجه خللاً هيكليًا عميقًا يتطلب قرارات صعبة لم تُتخذ بعد.
رغم امتلاك الفاتيكان مجموعة فنية نادرة تتضمن أعمالاً لمايكل أنجلو وكارافاجيو ومخطوطات قديمة لا تُقدّر بثمن، فإن هذه الكنوز تُسجّل محاسبياً بيورو واحد فقط لكل منها، بوصفها رموزًا روحية لا تُمسّ، ما يضع المؤسسة في معضلة مزدوجة: ثراء رمزي وفقر تشغيلي.
تاريخياً، كان بنك الفاتيكان مركزًا لشبهات مالية منذ عقود، أشهرها تورّطه في أزمة بنك أمبروزيانو في الثمانينيات. وفي العقد الأخير، وبفعل ضغوط أوروبية، حاول البنك الالتزام بالشفافية من خلال إصدار تقارير سنوية، وإنشاء وحدة لمكافحة غسل الأموال، لكن الأداء ظل بعيداً عن المعايير المصرفية العالمية، بل وصل الأمر في 2013 إلى حد إغلاق نظام المدفوعات الإلكترونية في الفاتيكان بأمر من البنك المركزي الإيطالي.
وفي سعيه لإعادة الانضباط المالي، خفّض البابا فرنسيس رواتب الكرادلة وأوقف بعض الامتيازات، لكن هذه الإجراءات لم تُفلح في معالجة السبب الجذري: غياب البنية الإدارية والرقابية الفعالة. وعلى الرغم من أن عددًا من التقارير الداخلية حذرت من ضرورة وضع جدول زمني لإنهاء العجز، فإن الجمود المؤسسي والتجاذبات بين الفصائل داخل الفاتيكان ظلتا حائلاً دون أي تقدم حقيقي.
اليوم، يُسدل الستار على حبرية البابا السابق فرنسيس، ليواجه البابا الجديد لاوون الرابع عشر معركة غير تقليدية، وهو التوفيق بين الإرث الديني والالتزام المالي، أن “يعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله”.
مقالات ذات صلة: “ما لقيصر لقيصر”: هكذا أدار البابا فرنسيس اقتصاد الفاتيكان











