
تتعمق أزمة النقد “الكاش” في قطاع غزة مع كل يوم يمر، حتى باتت الورقة الزرقاء من فئة 200 شيكل تمثل قلب النشاط الاقتصادي ومفتاح التعاملات اليومية. فبينما تراجع استخدام الدولار والدينار، صعد الشيكل ليصبح العملة الأكثر طلبًا، في ظل شح السيولة ومنع الاحتلال إدخال النقد إلى القطاع. هذه الأزمة غير المسبوقة جعلت فئة نقدية واحدة تتحكم في مسار الاقتصاد المحلي وتفرض قواعدها على الأسواق والتجار والمواطنين على حد سواء.
وفقًا لبيانات بنك إسرائيل، تشكّل فئة الـ200 شيكل نحو 80% من إجمالي النقد المتداول بين الجمهور، لكنها في غزة نادرة وصعبة المنال. فإسرائيل تتعمد سحب كميات كبيرة من السيولة من القطاع، وتمنع ضخ بدائل عنها، ما أدى إلى اختناق مالي حاد وارتفاع كبير في الطلب على هذه الورقة تحديدًا. وبات الحصول عليها شرطًا لإتمام أي معاملة مالية تقريبًا، سواء في المتاجر أو الأسواق الشعبية أو حتى في الصفقات بين التجار.
الصراف حسام حمدان من سوق البريج وسط القطاع يقول في حديثه للعربي الجديد إن من يملك فئة الـ200 شيكل اليوم يملك السيطرة على سوق الصرف. ويوضح أن التجار لم يعودوا يقبلون التعامل بالدولار أو الدينار كما في السابق، بل أصبح الشيكل هو العملة المفضلة، خصوصًا في ما يُعرف بـ“التكييش”، أي بيع السيولة النقدية مقابل عمولة. وأشار حمدان إلى أن الأزمة أدت إلى تفاوت أسعار العملة نفسها بحسب فئتها وحالتها، فالأوراق الجديدة ذات الطلب العالي تُباع بعمولات مرتفعة، بينما الأوراق التالفة أو فئة الـ20 شيكل تُرفض في كثير من الأحيان.
من جانبه، يوضح يوسف صلاح، أحد العاملين في التكييش بمنطقة مواصي خانيونس، في حديثه للعربي الجديد أن الطلب الكاسح اليوم هو على “الشيكل الأزرق”. ويقول إن الغزيين حين يسحبون السيولة من حساباتهم المصرفية عبر التكييش يصرّون على الحصول على هذه الفئة بالذات لأنها الأكثر تداولًا وقبولًا في السوق. ويفصّل صلاح أن لكل فئة نقدية “سعرًا” مختلفًا في التكييش: ففئة الـ200 شيكل الجديدة تُفرض عليها عمولة قد تصل إلى 40%، بينما تنخفض عمولة الطبعة القديمة منها إلى نحو 15% أو حتى 10% في بعض الفترات، لأن هذه الورقة القديمة سترفض على الأغلب في السوق. هذه الفوارق الضخمة، كما يوضح، تُظهر مدى القوة التي باتت تملكها الورقة الزرقاء في التحكم بحركة المال في غزة.

أما الفئات الصغيرة، مثل فئة الـ20 شيكل، فقد أصبحت مرفوضة عمليًا لدى كثير من التجار والمواطنين، لأنها لا تُستخدم في المعاملات الكبيرة ولا تحقق ربحًا في التكييش. وهكذا انقسمت السوق إلى “عملات مقبولة” وأخرى “منبوذة”، رغم أن قيمتها الاسمية واحدة، ما يكشف عمق التشوه النقدي الذي خلّفته الحرب والحصار معًا.
ويقدّر الخبير الاقتصادي محمد بربخ أن كمية الشيكل المتداولة في غزة انخفضت بأكثر من 45% منذ بداية الحرب، بسبب سحب إسرائيل كميات ضخمة من النقد، ومنع إدخال أوراق جديدة، إلى جانب تلف جزء كبير من الأموال الموجودة نتيجة الاستخدام المفرط وظروف الحرب. هذا الانخفاض الحاد خلق حالة ندرة غير مسبوقة، جعلت الورقة الزرقاء أثمن من قيمتها الحقيقية، وأدى إلى فوضى مالية تهدد بتآكل القدرة الشرائية وارتفاع الأسعار بشكل متواصل.
ويحذر بربخ من أن استمرار الوضع على هذا النحو سيقود إلى تشوهات أعمق في الاقتصاد الغزي، مع تزايد الاعتماد على قنوات مالية غير رسمية لإدارة النقد، ما قد يفتح الباب أمام تضخم غير مسيطر عليه ويزيد الأعباء على الأسر الفقيرة.
بهذا الشكل، لم تعد السياسات النقدية ولا مؤسسات البنوك هي من يحدد إيقاع السوق في غزة، بل ورقة نقدية واحدة تحمل لونًا أزرق — فئة الـ200 شيكل — التي تحولت من وسيلة دفع إلى رمز للأزمة الاقتصادية، ومن أداة تسهيل إلى معيار لقياس القدرة على البقاء في اقتصاد محاصر يختنق بنقص “الفكة” وسياسات الاحتلال.
مقالات ذات صلة: لا “فراطة” في غزة: معضلة الفكّة تجعل أبسط العمليات اليومية مهمّة شاقّة ومستحيلة











