
يعيش قطاع غزة أزمة نقدية خانقة تجلّت في اختفاء شبه كامل للفئات النقدية الصغيرة، أو ما يعرف محليًا بـ”الفكة” أو “الفراطة”، الأمر الذي جعل أبسط المعاملات اليومية – من شراء الخبز وشحن الهاتف إلى دفع أجرة المواصلات – مهمة معقدة وشاقة ومثيرة للقلق. هذه الأزمة، ككامل أزمات القطاع، هي وليدة حصار طويل، ومنع الاحتلال إدخال العملات إلى القطاع منذ ما يقارب العامين، وتدمير البنية المصرفية المحلية بشكل متعمد خلال الحرب على غزة.
المعاناة اليومية تتكرر في كل زاوية من الأسواق الشعبية. آلاء عبد النبي، من حي الدرج في مدينة غزة، قالت في حديثها مع العربي الجديد بأنها تتعب من التجوّل في السوق بورقة نقدية من فئة 20 شيكلاً، حيث تواجه عادةً رفضًا متكررًا من الباعة لاتمام عملية البيع بحجة عدم توفر الفكة، أو بسبب اهترائها من الاستعمال المتكرر، أو لخوف بعض التجار التعامل معها بعد اتشار شائعات عن شيوع تزويرها. ويجبر هذا الرفض آلاء، وغيرها من المواطنين، على شراء سلع إضافية لا تحتاجها فقط للحصول على “الباقي”. المشهد ذاته يعيشه بائعو السلع الغذائية والخضار وأصحاب المخابز، الذين يتعاملون يوميًا مع زبائن يحملون أوراقًا نقدية “كبيرة” مثل 20 أو 50 شيكلاً، حيث تتعطل تجارتهم عندما تنعدم قدرتهم على توفير الفكة.
النقص لا يقتصر على الورق المهترئ أو العملات المعدنية القديمة، بل يعكس أزمة سيولة أوسع. منذ نوفمبر 2023، ومع الانكماش التدريجي في عمل البنوك، تفاقمت الأزمة حتى وصلت إلى حد شلّ الحياة التجارية. البنوك التي تعرضت للاستهداف المباشر خلال الحرب توقفت عن العمل، ومع مرور الوقت أصبحت ظاهرة “التكييش” الخيار شبه الوحيد أمام الناس للحصول على السيولة. لكن الحصول على النقود يعني دفع عمولة باهظة، وصلت في بداية أغسطس 2025 إلى نحو 52% قبل أن تتراجع قليلًا إلى 36% مع عودة بعض الشاحنات التجارية والدفع الإلكتروني، ما جعل النقود الورقية أغلى من قيمتها نفسها.
الاقتصادي محمود صبرة يرى في حديثه مع العربي الجديد أن الاحتلال الإسرائيلي أعطى لتجار محددين سلطة التحكم في سوق الصرف، بينما جرى تحييد سلطة النقد الفلسطينية والبنوك عن أداء مهامها، وهو ما خلق سوقًا سوداء وسلب القطاع القدرة على إدارة السيولة. ويضيف أن أزمة الفكة تفاقمت بسبب فقدان الثقة بفئات نقدية مثل الـ10 شواكل المعدنية أو أوراق الـ20 شيكلاً البالية، ما زاد الضغط على الفئات الأصغر وجعلها سلعة نادرة يتنافس عليها الجميع.
الخبير سمير أبو مدللة يربط الأزمة بشكل مباشر بالحرب الجارية، مؤكدًا أن إسرائيل لم تكتفِ بمنع إدخال العملات، بل أغلقت البنوك ودمرت مؤسسات مالية، في انتهاك صارخ لاتفاق باريس الاقتصادي. هذه السياسة جعلت من الفكة عملة ثمينة لا يمكن الاستغناء عنها، في وقت يعاني فيه الغزيون من انهيار الخدمات، وارتفاع الأسعار، وانكماش النشاط التجاري، نتيجة سياسة إسرائيلية ممنهجة تستهدف تحييد سوق الكاش وشلّ قدرة الفلسطينيين على الحياة الطبيعية.
وفي سياق موازي، أكدت منظمة العفو الدولية في تقريرها الصادر اليوم أن إسرائيل تتبع سياسة “تجويع متعمدة” ضد غزة، محذرة من أن القطاع يقف على شفير مجاعة وشيكة. المنظمة ربطت بين ندرة الغذاء، انهيار الصحة، وتعطيل الدورة الاقتصادية، واعتبرت أن هذا ليس نتيجة عرضية للحرب بل خطة متعمدة ضمن مسار الإبادة الجماعية التي تنفذها إسرائيل بحق الفلسطينيين.
مقالات ذات صلة: “جيل بلا مدخرات”: هكذا التهمت نيران الحرب مدخرات أهل غزة ومستقبلهم المالي











