سجل الذهب مستويات تاريخية غير مسبوقة بعدما تجاوز 3800 دولار للأونصة خلال تداولات الأسبوع، مدفوعًا بعوامل اقتصادية ونقدية وجيوسياسية متشابكة. ويأتي هذا الارتفاع في وقت يترقب فيه المستثمرون قرارات مجلس الاحتياط الفيدرالي الأميركي، وسط توقعات بخفض إضافي للفائدة خلال الأشهر المقبلة، بالتزامن مع تراجع مؤشر الدولار واستمرار الضغوط التضخمية عالميا.
أعلن الاحتياطي الفيدرالي الأميركي مؤخرًا خفض أسعار الفائدة من 5.50% إلى 5.25%، وهو أول خفض منذ عدة أشهر، مبررًا قراره بضعف سوق العمل والحاجة إلى دعم النمو. هذا القرار فتح المجال أمام موجة شراء واسعة للذهب باعتباره أصلًا لا يحقق عائدا مباشرا لكنه يحافظ على القيمة في بيئة تتراجع فيها جاذبية الأصول ذات العوائد الثابتة مثل السندات والودائع البنكية، في ظل انخفاض الفائدة. وتُظهر أداة “فيد ووتش” التابعة لبورصة شيكاغو التجارية أن المستثمرين يضعون احتمالًا بنسبة 90% لخفض جديد في أكتوبر ليصل معدل الفائدة إلى 5%، واحتمالًا بنسبة 75% لخفض إضافي في ديسمبر إلى 4.75%. هذه التوقعات عززت الثقة في استمرار مسار أسعار الذهب الصاعد على المدى القريب.

العلاقة العكسية بين الذهب والفائدة
يعرف عن الذهب ارتباطه العكسي بمستويات الفائدة الأميركية. فعندما ترتفع الفائدة، يفضل المستثمرون الأصول التي تمنح دخلا ثابتا مثل السندات والودائع، بينما يتراجع الإقبال على الذهب لكونه لا يوفر عائدا مباشرا. أما في حالة خفض الفائدة، تتراجع جاذبية تلك الأدوات، ويصبح الذهب خيارا أوضح للحفاظ على القيمة. هذا ما انعكس في الأسواق فور إعلان الفيدرالي عن قراره الأخير، إذ ارتفع الذهب في التداولات الفورية إلى 3753 دولارا للأونصة، بينما صعدت العقود الآجلة لشهر ديسمبر إلى 3787 دولارا، في مؤشر على استمرار الرهانات بارتفاع الأسعار.
إلى جانب السياسة النقدية، ساهم تراجع الدولار في دعم أسعار الذهب. فالمعدن الأصفر يُسعر بالدولار، ما يعني أن انخفاض قيمة العملة الأميركية يجعل شراء الذهب أقل تكلفة بالنسبة لحائزي العملات الأخرى مثل اليورو والين والجنيه الإسترليني. هذا العامل زاد من الطلب العالمي على الذهب خلال سبتمبر، ورفع الأسعار إلى مستويات قياسية. وبحسب بيانات الأسواق، فإن المستثمرين الذين يمتلكون عملات قوية نسبيا وجدوا أن شراء الذهب أصبح أكثر جدوى، وهو ما أدى إلى تدفق إضافي على المعاملات الفورية والعقود الآجلة.
الطلب الاستثماري وتأثير العوامل الجيوسياسية
الارتفاع لم يقتصر على استثمارات المؤسسات المالية الكبرى أو صناديق التحوط، بل امتد أيضا إلى المستثمرين الأفراد. في عدة مناطق من العالم، من الشرق الأوسط إلى آسيا وأميركا اللاتينية، ازداد الطلب الشعبي على شراء الذهب بكميات صغيرة، في ظل القناعة بأن الأسعار مرشحة لمزيد من الصعود. هذا السلوك ساهم في زيادة الطلب الكلي، إلى جانب الطلب المؤسسي، ما زاد من الضغوط الصعودية على الأسعار.
الاضطرابات السياسية والصراعات الجيوسياسية في الشرق الأوسط وأوروبا شكلت عاملا إضافيا لدعم موقع الذهب كأصل آمن. تاريخيا، يؤدي تصاعد المخاطر العالمية إلى ارتفاع الإقبال على الذهب من جانب الأفراد والحكومات والبنوك المركزية. ومع استمرار حالة عدم اليقين في الأسواق العالمية، زادت الحاجة إلى الأصول التي تحافظ على القيمة وتوفر حماية من التضخم والتقلبات النقدية.
أصوات مؤثرة في عالم الاستثمار دعمت هذه الرؤية. المستثمر الأميركي راي داليو، مؤسس “بريدج ووتر أسوشيتس”، أشار مؤخرا إلى أن الذهب والعملات غير الورقية سيكتسبان أهمية أكبر في ظل تزايد المخاطر المحيطة بالعملات الرئيسية نتيجة تفاقم الديون العالمية. كما دعا إلى تخصيص نحو 10% من المحافظ الاستثمارية للذهب، محذرا من أن الدين الحكومي الأميركي بلغ مستويات غير مستدامة.
ورغم الاتجاه العام الصاعد، يتوقع بعض المحللين احتمال حدوث تصحيح سعري قصير الأجل، خصوصا إذا جاءت تصريحات رئيس الفيدرالي جيروم باول المقبلة مخالفة لتوقعات الأسواق.
مقالات ذات صلة: الـOECD ترفع توقعاتها للنمو العالمي.. لكنها تحذّر: “التأثير الكامل للرسوم الجمركية لم يظهر بعد”











