
وسط الحرب المستمرة على قطاع غزة وما تخلفه من دمار واسع للبشر والحجر، كاد كنز أثري ثمين أن يُمحى تمامًا من الوجود لولا عملية إنقاذ جرت تحت ضغط دولي في اللحظات الأخيرة. فقد هدد الجيش بقصف برج من عشرة طوابق في حي الرمال بمدينة غزة، يضم في طابقه الأرضي مستودعًا يحتوي على أكبر مجموعة من الآثار الأركيولوجية في القطاع. ضمّ المستودع، الذي يشرف عليه المركز الفرنسي لدراسة الكتاب المقدس والآثار في القدس (EBAF)، آلاف القطع التي جُمعت على مدى ثلاثة عقود من خمسة مواقع رئيسية، بينها دير القديس هيلاريون المدرج على قائمة التراث العالمي لليونسكو، إضافة إلى بقايا ميناء أنثيدون اليوناني ومقبرة رومانية.
عقب التهديد الإسرائيلي، تدخلت فرنسا عبر قنصليتها العامة في القدس، بالتعاون مع اليونسكو وبطريركية اللاتين، ونجحت في الحصول على مهلة قصيرة لإخلاء المستودع. بدأت العملية مساء الأربعاء وسط ظروف شبه مستحيلة، فشبكات النقل معطلة، زالطرق مدمرة، وشاحنات النقل نادرة. ويروي الراهب الدومينيكاني أوليفييه بوكيون، مدير المركز الفرنسي، أن العملية تمت “بتكتم شديد لتجنب تعريض حياة الناس للخطر”، مؤكدًا أن ما جرى كان سباقًا مع الزمن لإنقاذ جزء من ذاكرة غزة المادية.
رغم التحديات، تمكن الأثريون من نقل القطع الأهم إلى كنيسة داخل غزة، اعتقادًا منهم أن استهدافها سيكون أقل احتمالًا. لكن لم ينجو كل شيء. يوضح عالم الآثار رينيه إلتر: “أنقذنا جزءًا كبيرًا، لكن في مثل هذه العمليات نخسر دائمًا أشياء ونواجه خيارات مؤلمة”. كثير من القطع تضررت أو تحطمت أو فُقدت، غير أن معظمها وُثق بالتصوير أو الرسم، ما يحافظ على قيمتها العلمية وإن فقدت مادتها الأصلية.
المستودع كان يضم نحو 180 مترًا مكعبًا من الآثار، تشمل أوانٍ فخارية، قطع فسيفساء، أدوات معدنية وغيرها. وفق المركز الفرنسي، العديد من المواقع الأثرية التي استُخرجت منها هذه القطع تعرضت أصلًا لدمار واسع جراء الحرب الأخيرة، وهو ما يضاعف من خطورة خسارة المستودع نفسه.
الجيش الإسرائيلي أكد من جهته أن عملية النقل تمت بالتنسيق مع “جهات دولية”، مدعيًا أنه سمح بنقل المقتنيات إلى مكان “آمن”. لكن باحثين ومؤسسات ثقافية يرون في الحادثة جزءًا من نمط أوسع، حيث استُهدف منذ اندلاع الحرب في أكتوبر 2023 ما لا يقل عن 94 موقعًا تراثيًا في غزة، بحسب تقارير اليونسكو، بينها قصر الباشا الذي يعود إلى القرن الثالث عشر. كما دُمّر أحد متحفي القطاع كليًا وأصيب الآخر بأضرار جسيمة.
هذه الوقائع تعكس مأساة مضاعفة لسكان غزة، الذين لا يواجهون فقط تهديد حياتهم ومنازلهم ومؤسساتهم التعليمية والدينية، بل يجدون أيضًا أن إرثهم الحضاري الممتد عبر آلاف السنين أصبح عرضة للإبادة. غزة التي توصف بأنها من أقدم مدن العالم، تعاقبت عليها حضارات الفراعنة والإغريق والرومان والبيزنطيين وصولًا إلى العهد الإسلامي، وتركت كل مرحلة بصماتها المادية التي تمثل سجلًا حيًا لذاكرة الإنسانية.
اليوم، بات جزء كبير من هذه الذاكرة مهددًا بالضياع. يقول رينيه إلتر بمرارة: “ربما تكون الصور والكتب والمقالات هي كل ما سيتبقى من آثار غزة“. ورغم هذا الواقع القاتم، تبقى عملية الإنقاذ الأخيرة بمثابة شهادة على الجهد الإنساني لحماية ما يمكن حمايته من تراث مدينة قاومت على مدى العصور، لكنها تواجه الآن خطر أن يُمحى تاريخها المادي من الوجود.
مقالات ذات صلة: الحرب الروسية الأوكرانية تصل القدس: المعركة تحتدم حول فندق قصر سيرجي الروسي











