في الأيام الأخيرة، تصدّرت الهستدروت العناوين بعد أن كشفت الشرطة عن واحدة من أكبر قضايا الفساد في تاريخ النقابات العمالية في إسرائيل. رئيس الهستدروت، أرنون بار دافيد، وزوجته هيليا كنيستر، وعدد من المسؤولين ورجال الأعمال اعتُقلوا في إطار تحقيق تقوده وحدة مكافحة الجرائم الاقتصادية “لاهف 433”. لكن ما الذي يحدث فعلاً داخل هذه المنظمة التي يُفترض أنها تمثل العمال؟ ولماذا يجب أن يهمك الأمر؟

ما هي الهستدروت؟
الهستدروت، أو الاتحاد العام لنقابات العمال في إسرائيل، تأسست عام 1920 بهدف تنظيم العمال والدفاع عن حقوقهم. بمرور الوقت، تحوّلت من منظمة نقابية إلى مؤسسة عملاقة تملك وتدير شركات ومؤسسات اقتصادية في مجالات متعددة، من التعليم والصحة إلى العقارات والخدمات المالية والثقافية. اليوم، لا يمكن وصفها فقط كنقابة، بل كإمبراطورية اقتصادية تضم أصولًا بمليارات الشواكل، وتؤثر بشكل مباشر في قطاعات واسعة من الاقتصاد الإسرائيلي.
كم تبلغ قوتها الاقتصادية؟
ميزانية الهستدروت السنوية تتجاوز مليار شيكل، لكنها تدير أيضًا أذرعًا اقتصادية أخرى تدرّ أرباحًا ضخمة، منها شبكة بيوت المسنين “مشعان”، ومدارس ومؤسسات تعليمية مثل شبكة “عَمال”، ومؤسسة “نعمت” التي تدير مئات الحضانات، إلى جانب صناديق التقاعد وصناديق الاستكمال التي تُدار ضمن منظومة النقابة. كما تملك مؤسسات خدمية وتجارية مثل شبكة مراكز الرياضة والترفيه “الكانتري”. بهذا المعنى، أصبحت الهستدروت دولة صغيرة داخل الدولة، لها أجهزتها المالية والإدارية الخاصة.
القضية لا تتعلق فقط بفساد مالي بل تكشف عن علاقات متشابكة بين النقابة وحزب الليكود. كثير من رؤساء اللجان العمالية البارزين أعضاء في الحزب، وبعضهم يستخدم موقعه النقابي لخدمة مصالح سياسية. على سبيل المثال، حاول ليئاف إلياهو، رئيس لجنة عمال سكك الحديد، استبدال شركة التأمين التي تغطي آلاف الموظفين دون أي مناقصة لصالح وكالة عزرا غباي.
ما الذي كشفه التحقيق؟
التحقيقات التي جرت بسرية على مدى عامين كشفت عن شبكة علاقات فساد واسعة بين قياديين في الهستدروت ورجل أعمال كبير في مجال التأمين يُدعى عزرا غباي، وهو شخصية مقربة من حزب الليكود. وفق تحقيقات الشرطة الأولية، قدّم غباي رشاوى وخدمات شخصية لمسؤولين كبار في النقابة مقابل تحويل عقود التأمين الخاصة بموظفي شركات حكومية وبلديات لصالح وكالته. هؤلاء المسؤولون بدورهم استغلوا مناصبهم لتعيين مقربين منه في مجالس إدارة مؤسسات عامة وشركات حكومية. الشرطة داهمت أكثر من خمسين موقعًا، من بينها منازل ومكاتب وبلديات مثل ريشون لتسيون وأشدود وكريات غات، واعتقلت ثمانية مشتبهين وصادرت أموالًا وممتلكات يُعتقد أنها ناتجة عن هذه الصفقات.
كيف تدخلت السياسة في القضية؟
القضية لا تتعلق فقط بفساد مالي بل تكشف عن علاقات متشابكة بين النقابة وحزب الليكود. كثير من رؤساء اللجان العمالية البارزين أعضاء في الحزب، وبعضهم يستخدم موقعه النقابي لخدمة مصالح سياسية. على سبيل المثال، حاول ليئاف إلياهو، رئيس لجنة عمال سكك الحديد، استبدال شركة التأمين التي تغطي آلاف الموظفين دون أي مناقصة لصالح وكالة عزرا غباي. وعندما رفضت إدارة الشركة القرار، تدخلت الهستدروت لدعمه ورفعت دعوى قضائية ضد الإدارة، في سلوك يُظهر مدى اختلاط المصالح بين النقابة والسياسة.

هذا التحالف بين الليكود والهستدروت لا يقتصر على النفوذ داخل الشركات الحكومية، بل يمتد أيضًا إلى مناصب ووظائف في مؤسسات عامة مثل “كيرن كييمت ليسرائيل” (الصندوق القومي اليهودي). هناك وُظّف شقيق رئيس الهستدروت، إيرَن بار دافيد، في شركة “هيميناتا” العقارية التابعة للصندوق، كما حصلت زوجة نائبه، روعي يعقوب، على وظيفة مماثلة. كل ذلك يعكس شبكة محسوبية متبادلة بين النقابة ومراكز القوة السياسية في الدولة.
هل الفساد محدود في القمة فقط؟
التحقيقات تشير إلى أن المشكلة أعمق من مجرد تجاوزات فردية. فالهستدروت تعمل قانونيًا بصفتها “جمعية عثمانية” — أي بموجب قانون قديم من الحقبة العثمانية لا يفرض عليها التزامات صارمة بالشفافية أو الرقابة الحكومية. هذا الوضع مكّنها على مدى عقود من إدارة مليارات الشواكل دون رقابة عامة حقيقية. وحتى بعد تعديل القانون عام 2021 الذي ألزمها بنشر تقارير سنوية، لا تزال بعض صناديقها مثل “صندوق الإضرابات” تعمل بسرية تامة.
وماذا عن المؤسسات التابعة مثل شبكة الكانتري؟
رُصدت مظاهر محسوبية واضحة في الشركات التابعة للهستدروت، أبرزها شبكة نوادي اللياقة “الكانتري”. فبينما شهد قطاع اللياقة في البلاد نمواً سنويًا كبيرًا، غرقت الشبكة بعجز مالي ضخم تجاوز 15 مليون شيكل سنويًا. رغم ذلك، ارتفعت رواتب كبار المدراء إلى مستويات خيالية. أحد نواب مدير عام الشبكة، دافيد (دودو) كوهين، كان عامل نظافة قبل عقد من الزمن، ثم رُقّي خلال فترة قصيرة إلى منصب إداري رفيع براتب يقارب 450 ألف شيكل سنويًا، وهو من المقربين من رئيس الهستدروت ومن شخصيات في الليكود. وتشير المعطيات إلى أن النقابة استمرت في ضخ أموال لإنقاذ هذه الشركة، بما في ذلك قروض من جمعيات أخرى تابعة لها.
كيف يؤثر كل هذا عليكَ؟
قد يظن البعض أن ما يجري بعيد عنهم، لكنه ليس كذلك. فالكثير من صناديق التقاعد وصناديق الاستكمال التي يدخر فيها المواطنون أموالهم تُدار جزئيًا عبر مؤسسات مرتبطة بالهستدروت أو تقع تحت نفوذها. أي سوء إدارة أو فساد مالي في هذه المنظومة يمكن أن ينعكس في نهاية المطاف على العوائد والأمان المالي للمدخرين. إضافة إلى ذلك، فإن النقابة التي يُفترض أن تدافع عن العمال، عندما تتحول إلى مركز نفوذ سياسي ومالي، فإن ثقة الجمهور بها تتراجع، وتضعف قدرتها على القيام بدورها الاجتماعي الحقيقي.
ماذا الآن؟
التحقيق لا يزال في بدايته، لكن الاتهامات خطيرة، وتشمل الرشوة، وخيانة الأمانة، وغسيل الأموال، والتهرب الضريبي. الشرطة تتحدث عن احتمال توسّع التحقيق ليشمل عشرات المسؤولين ورجال الأعمال. إذا ثبتت الشبهات، قد تتعرض الهستدروت لهزة داخلية كبيرة وتُجبر على تغيير طريقة إدارتها بالكامل، وربما يُعاد النظر في مكانتها القانونية كـ“جمعية عثمانية” تعمل دون إشراف كافٍ من الدولة.
مقالات ذات صلة: فضيحة فساد تهزّ البلاد: اعتقالات عديدة تشمل رئيس الهستدروت وزوجته ورجل أعمال مقرّب من الليكود











