
تشهد مدينة نيويورك اليوم انتخابات لرئاسة بلديتها في أجواء غير مسبوقة، بعد أن تصدّر المرشح الديمقراطي زهران ممداني — الذي كان حتى وقت قريب شخصية غير معروفة — استطلاعات الرأي. فقد أظهرت أحدث استطلاعات شركة «أطلس إنتل» تقدّمه بنحو 5% على منافسيه، بينما تشير استطلاعات أخرى إلى فارق أكبر يصل إلى 15%.
نجاح ممداني، الذي فاجأ المؤسسة السياسية والإعلامية في المدينة، يعود إلى مزيج من العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. فقد ركّز حملته على قضايا الغلاء المعيشي، وتحسين أوضاع العاملين، وتقديم دعم مباشر للفئات الضعيفة، في وقت تواجه فيه نيويورك واحدة من أعلى تكاليف المعيشة في الولايات المتحدة. كما لاقت مواقفه الناقدة لإسرائيل والمؤيدة بشدة لحقوق الفلسطينيين صدى لدى شريحة من الناخبين الشباب واليساريين، ما زاد من شعبيته في بعض الأحياء التقدمية.
لكن العامل الأهم الذي يفسّر هذا التحول في المزاج الانتخابي، بحسب تحليل لصحيفة ذاماركر، هو التغيّر الديموغرافي في سوق العمل النيويوركي. وفق بيانات وزارة العمل في ولاية نيويورك، انخفضت نسبة العاملين في القطاع المالي من نحو 15% من القوى العاملة في عام 1990 إلى حوالي 10% فقط اليوم. ورغم أن عدد المصرفيين ظل مستقرًا عند 10 إلى 11% خلال العقد الأخير، فإن نسبة العاملين في قطاعات مثل الصحة والتعليم والخدمات الاجتماعية والفنون والمنظمات غير الربحية ارتفعت من 33% عام 1990 إلى 43% حاليًا.
هذه الأرقام تفسر كيف يمكن لمرشح يساري في «عاصمة الرأسمالية العالمية» أن يحظى بدعم واسع. فشرائح واسعة من الناخبين لم تعد تنتمي إلى عالم المال، بل إلى قطاعات خدماتية واجتماعية ذات أجور أقل بكثير. ووفق بيانات وزارة العمل الأميركية، يتراوح متوسط دخل العاملين في القطاع المالي بين 150 و250 ألف دولار سنويًا، بينما يبدأ دخل العاملين في قطاع الصحة من نحو 40 ألف دولار، ولا يتجاوز 200 ألف دولار سنويًا حتى بالنسبة للأطباء. أما العاملون في مجالات الرعاية الاجتماعية فيتراوح دخلهم بين 50 و120 ألف دولار سنويًا في المتوسط. وتُظهر البيانات الفدرالية أن العاملين في القطاع المالي يتقاضون رواتب أعلى بـ33% من رواتب العاملين في القطاعات الاجتماعية.
ورغم أن الاقتصاد المحلي في نيويورك ما زال يعتمد إلى حدٍّ كبير على القطاع المالي، الذي يشكل نحو 20% من الناتج المحلي الإجمالي لولاية نيويورك ونسبة أكبر داخل المدينة نفسها، فإن التحولات في سوق العمل تُضعف هيمنة هذا القطاع سياسيًا. ويبلغ الناتج المحلي الإجمالي للمنطقة الحضرية لنيويورك نحو 2.3 تريليون دولار في عام 2024، أي ما يفوق الناتج المحلي لمعظم اقتصادات العالم.
من الناحية المالية، أظهرت بيانات بلدية نيويورك أن إيراداتها خلال السنة المالية المنتهية في مارس 2025 بلغت 143 مليار دولار، مقابل نفقات بلغت 141.8 مليار دولار، ما ترك فائضًا في الموازنة قدره 1.8 مليار دولار. لكن ممداني يصرّ على أن هذا الفائض لم ينعكس على حياة الناس، فلم يُسهم في تحسين حياة الفئات الفقيرة والمتوسطة، وأطلق ممداني وعودًا بزيادة الضرائب على الأثرياء، وتوفير مواصلات عامة مجانية، وفرض قيود على الإيجارات المرتفعة جدًا في المدينة، وهي أفكار يصفها خصومه بأنها غير واقعية.
ممداني قدّم نفسه باعتباره صوت الطبقة العاملة وصاحب مشروع لإعادة توزيع الموارد في المدينة، لكن هذا الخطاب أثار غضب الأوساط المالية التي ترى فيه تهديدًا مباشرًا للنظام الاقتصادي. فقد أعلن الملياردير ومدير صندوق التحوط بيل أَكمان في يوليو الماضي عن تأسيس مجموعة لمناهضة حملته، متّهمًا ممداني بتبنّي أفكار اشتراكية “ستقضي على اقتصاد نيويورك”، حسب تعبيره، محذرًا من أن المستثمرين وممولي الضرائب الأغنياء سيغادرون المدينة إذا فاز.
كما هاجمه مدير صندوق التحوط السابق ويتني تيلسون، الذي نافسه في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، واصفًا إياه بأنه “شخص خطر وغير مؤهل للمنصب”، رغم اعترافه بأن هزيمته في الانتخابات العامة ستكون صعبة. ووفق تقديرات تيلسون، قد يتمكّن خصوم ممداني من جمع أكثر من 100 مليون دولار لتمويل حملة ضده.
أما جيمي ديمون، الرئيس التنفيذي لمصرف “جي. بي. مورغان تشيس”، فوصف ممداني في يوليو بأنه “أقرب إلى الماركسي منه إلى الاشتراكي”، وقال إن أفكاره الاقتصادية “مجرد شعارات لا علاقة لها بالعالم الحقيقي”. لكنه خفّف من لهجته لاحقًا عندما تبيّن تفوق ممداني في استطلاعات الرأي، مشيرًا إلى أنه مستعد للتعاون معه إذا فاز قائلاً: “علينا أن نتعامل مع الواقع القائم، وليس مع ما نتمناه، وإذا أصبح عمدة للمدينة فسنتعامل معه وفق هذا الواقع”.
الانتخابات الجارية اليوم ستكشف إن كان ممداني سينجح في تحويل هذا الزخم الشعبي إلى انتصار فعلي، في مدينة لطالما كانت معقلًا للمال والأعمال، لكنها تشهد الآن صراعًا متصاعدًا بين رؤيتين: الأولى تمثل وول ستريت وأصحاب الثروات، والثانية تعبّر عن سكان يعانون ارتفاع الأسعار وتراجع الأجور ويبحثون عن نموذج اقتصادي أكثر عدالة.
مقالات ذات صلة: Ben & Jerry’s بالبطيخ: خطوة تضامنية مع الشعب الفلسطيني











