
بعد أشهر من الارتفاع المتواصل في أسعار الذهب، شهدت أسعاره الأسبوع الماضي هزة قوية أنهت حالة الحماس التي اجتاحت المستثمرين حول العالم. فقد تراجع سعر الذهب بنسبة 6.3% في يوم واحد، وهي أكبر خسارة يومية منذ عام 2013، ليغلق يوم الجمعة عند 4,113 دولارًا للأونصة، بعد أن كان قد بلغ ذروته عند نحو 4,400 دولار قبل أيام قليلة فقط.
الهبوط المفاجئ دفع كثيرين للتساؤل عما إذا كان ما حدث مجرد تصحيح مؤقت بعد موجة صعود سريعة، أم بداية لانعكاس أوسع في الاتجاه العام. لكن في أسواق المال، كان هذا التراجع متوقعًا لدى بعض الخبراء الذين رأوا في الارتفاع الحاد الذي بدأ قبل شهرين وتجاوز 30% خلال فترة قصيرة، ظاهرة غير قابلة للاستمرار.
الخبيرة نيكي شيلز، رئيسة قسم أبحاث المعادن الثمينة في شركة “MKS Pamp”، كانت من بين القلائل الذين حذروا مسبقًا من أن الأسعار تجاوزت الحدود الطبيعية. فبحسب تقرير بلومبرغ، فقد أبلغت زيائنها في السادس من أكتوبر قائلةً: “الجميع يتهافت على شراء الذهب، لكن السعر أصبح مبالغًا فيه من كل النواحي”. وعندما بلغ الذهب أعلى مستوياته في 20 أكتوبر، حذر تاجر المعادن مارك لافرت من “ارتفع الطلب على الذهب بشكل مبالغ فيه”. وبالفعل، بعد أيام فقط، جاء الهبوط الكبير.
ومع ذلك، ترى شيلز أن ما حدث لا يشير إلى انهيار، بل إلى “تصحيح صحي” في مسار السوق. وتقول إن “الأسعار ستستقر مؤقتًا ثم تعود للارتفاع بوتيرة أهدأ وأكثر توازنًا”، معتبرة أن السوق بحاجة إلى فترات تهدئة لإزالة “الضجيج الزائد” والحفاظ على استقراره.
المثير في هذه المرة أن تراجع سعر الذهب لم يؤثر على أسواق أخرى مثل النفط أو الأسهم، على عكس ما كان يحدث عادة في السابق. لذلك لم يتمكن المحللون من تحديد سبب واضح ومحدد لهذا الانخفاض. فبعضهم يعتقد أن صناديق التحوط باعت جزءًا من استثماراتها لجني الأرباح بعد الارتفاع الكبير، بينما يرى آخرون أن التراجع ناتج عن قيام البنوك الصينية ببيع كميات كبيرة من الذهب في السوق.
لكن في كل الأحوال، كان من المنطقي أن تأتي هذه الوقفة بعد أن قفزت الأسعار إلى مستوى غير مسبوق تجاوز حاجز 4,000 دولار لأول مرة في التاريخ، أي خلال 19 شهرًا فقط بعد أن كانت دون 2,000 دولار.

استطلاع أجرته رابطة سوق السبائك في لندن (LBMA) مطلع عام 2025 بين محللي أسواق الذهب أظهر إجماعًا على أن الاتجاه الصعودي سيستمر خلال هذا العام، لكن أحدًا لم يتوقع أن تتجاوز الأسعار مستوى 3,300 دولار للأونصة، ما يعني أن الارتفاع الفعلي فاق كل التقديرات.
صعود الذهب في العامين الأخيرين تغذّى بعوامل عدة، أبرزها مشتريات البنوك المركزية في دول عديدة منذ عام 2022، بعد العقوبات الغربية على البنك المركزي الروسي عقب غزو أوكرانيا. كما ساهمت المخاوف من ارتفاع ديون الحكومات وضعف استقرارها المالي في تعزيز الإقبال على الذهب الذي يُعتبر “ملاذًا آمنًا” في فترات الاضطراب الاقتصادي والتوتر الجيوسياسي.
غريغوري شيرر من بنك “جي بي مورغان تشيس” يرى في حديثه مع بلومبرغ أن المستثمرين سيتجهون الآن لتقليل المخاطر وجني الأرباح مؤقتًا، لكنه يتوقع أن يعود الطلب من فئات أخرى مثل البنوك المركزية والمستثمرين الذين يشترون الذهب المادي، ما قد يدفع الأسعار مجددًا إلى الارتفاع. ويتوقع شيرر أن يتجاوز سعر الأونصة 5,000 دولار بحلول الربع الأخير من عام 2026، إذا استمر الطلب القوي من المؤسسات المالية. لكنه يحذّر من أن توقف البنوك المركزية عن شراء الذهب قد يقلب التوقعات رأسًا على عقب.
المفارقة أن من أشعلوا موجة الصعود الأخيرة لم يكونوا المستثمرين الكبار، بل الأفراد العاديون الذين تدفقوا على متاجر الذهب في آسيا وأوروبا والولايات المتحدة. من بانكوك إلى سنغافورة، انتشرت صور الطوابير أمام المحالّ، فيما أعلن تجار كثيرون عن نفاد المخزون. في سنغافورة مثلاً، قال بيت وولدن نائب مدير شركة “بوليون ستار” لتجارة الذهب إن يوم الثلاثاء الماضي، يوم الانخفاض الكبير، كان “أكثر أيام الشركة ازدحامًا على الإطلاق”، موضحًا أن “عدد المشترين فاق عدد البائعين بكثير لأن الناس أرادوا اغتنام فرصة الهبوط”.
تاريخ السوق يذكّر بأن مثل هذه الانعكاسات قد تكون عابرة أو طويلة. ففي سبتمبر 2011 بلغ سعر الذهب 1,921 دولارًا للأونصة، وسط إجماع المحللين حينها على استمرار الصعود، لكنه تراجع بعد ذلك لسنوات طويلة ولم يعد إلى هذا المستوى إلا بعد تسع سنوات.
مقالات ذات صلة: أكبر هبوط للذهب منذ 12 عامًا… وتراجع هو الأكبر للفضة منذ 2021











