
في مشهد غير مسبوق منذ سنوات، شلّ إضراب عام واسع يوم الجمعة الثالث من أكتوبر الحياة في إيطاليا، بعدما دعا إليه كل من الاتحاد الإيطالي العام للعمل (CGIL) والاتحاد النقابي الأساسي (USB) تحت شعار لافت: «لنوقف كل شيء». الإضراب جاء احتجاجاً على الهجوم الإسرائيلي على أسطول الصمود العالمي واعتقال عدد من النشطاء الإيطاليين المشاركين فيه، وتعبيراً عن التضامن الشعبي الواسع مع غزة.
صحيفة إل جورنيالي الإيطالية نقلت أن الحراك أصاب قطاعات حيوية بالشلل، بدءاً من النقل العام وصولاً إلى المدارس والمستشفيات والإدارات الحكومية. ووفق تقديراتها الأولية، بلغت الخسائر الإجمالية نحو 970 مليون يورو، أي ما يعادل 8% من الناتج المحلي اليومي لإيطاليا، بينما يرى خبراء الاقتصاد أن التكلفة الحقيقية قد تكون أكبر، لأن الأثر يمتد إلى المستقبل من خلال خسارة الثقة وتعطيل الاستثمارات وتراجع القدرة التنافسية.
في قطاع النقل، كانت الخسائر الأكبر، حيث قُدّرت بنحو 260 مليون يورو نتيجة توقف القطارات والشاحنات والحافلات. شُلّت حركة النقل بين المدن، وتأخرت آلاف الرحلات أو أُلغيت بالكامل، ما اضطر الشركات إلى تعويض التذاكر للزبائن أو خسارة زبائن لصالح وسائل نقل بديلة. كما تأثرت سلاسل التوريد المعروفة بدقتها ضمن نظام الإنتاج في الوقت المحدد (Just in Time)، حيث يكفي تأخير بسيط لإيقاف خطوط الإنتاج وتعطيل الصادرات. المشهد في الموانئ كان بدوره فوضويًا: حاويات متراكمة وسفن تنتظر الإذن بالتحميل أو التفريغ، واقتصاد صناعي ضخم وجد نفسه مشلولًا في يوم واحد.
الإضراب لم يقتصر على النقل، بل أغلق آلاف المدارس، ما أجبر ملايين الآباء على البقاء في منازلهم، وتسبب في انخفاض ساعات العمل والإنتاجية. في المقابل، توقف عدد كبير من الإدارات العامة والمكاتب الحكومية، فتجمدت معاملات المواطنين والرخص والمشاريع، وقدّرت خسائر هذا القطاع وحده بحوالي 130 مليون يورو. أما من الناحية الأمنية، فقد استدعى الأمر مئات من عناصر الشرطة لمراقبة التظاهرات وتأمين الشوارع والساحات، ما أضاف تكاليف إضافية إلى فاتورة الدولة.
القطاع الصحي كان من أكثر المتضررين، إذ نشرت صحيفة كوتيديانو سانيتا الإيطالية أرقاماً صادمة تشير إلى إلغاء أكثر من 1.2 مليون خدمة طبية في يوم واحد، من بينها نحو 15 ألف عملية جراحية و100 ألف فحص متخصص، أي ما يعادل خسائر بقيمة 579 مليون يورو. لكن الكلفة الحقيقية لا تتوقف عند هذا الرقم، لأن تأجيل العمليات والعلاجات يسبب تدهوراً في حالات المرضى المزمنة ويؤدي إلى ارتفاع التكاليف العلاجية في المستقبل.
الإضراب حمل أيضاً طابعًا سياسيًا وإنسانيًا واضحًا. فقد قالت النائبة ستيفانيا أسكاري، المتحدثة باسم حركة خمس نجوم، إنها شاركت بنفسها في الاحتجاجات، مضيفة: «في اليوم الذي توقفت فيه إيطاليا، أردنا أن نقول كفى للإبادة الجماعية في غزة، وكفى للاحتلال غير الشرعي للضفة الغربية، وكفى لتواطؤ حكومتنا مع إسرائيل». وأوضحت أسكاري أن الإضرابات والمقاطعات والعقوبات الاقتصادية هي «أقوى أشكال الضغط لأنها تمسّ المصالح التي يقوم عليها النفوذ السياسي». وبرأيها، عندما تصبح الخسارة الاقتصادية ملموسة، تُجبر الحكومات على تعديل مواقفها.

وأضافت النائبة الإيطالية أن المشهد كان مؤثرًا: «أن ترى هذا العدد الهائل من الناس يرفضون إسكاتهم، ويختارون ألّا يديروا ظهورهم لما يحدث، يعني أن الشعب لا يقف متفرجًا عندما يعجز السياسيون عن التحرك». وأكدت أن الضغط الشعبي هو الذي أجبر الحكومة الإيطالية على التعاطي مع قضية أسطول الصمود العالمي، مشيرة إلى أن الأفعال اليومية مثل مقاطعة الشركات المتعاونة مع إسرائيل أو سحب الاستثمارات من البنوك التي تموّل الحرب تترك أثرًا حقيقيًا على السياسات العامة. وأضافت: «كما قال جوليان أسانج، الحرب هي أيضًا تجارة، والصناعات الحربية تكسب من استمرارها، لذا فإن تعطيل الاقتصاد هو لغة يفهمها صانعو القرار».
على الجانب الحكومي، لم تمر الأحداث بهدوء. فقد هاجم وزير النقل ماتيو سالفيني، زعيم حزب رابطة الشمال اليمينية المتطرفة، الإضراب ووصفه بأنه غير مشروع، مستندًا إلى رأي اللجنة المستقلة لضمان الإضراب التي قالت إن الإجراء خالف القانون لغياب الإشعار المسبق. وأعلن سالفيني أنه سيسعى إلى فرض عقوبات أشد عبر تطبيق نظام «التشغيل الإجباري» الذي يحوّل الإضراب إلى تعطيل محدود، سواء بتقليص ساعاته أو تأجيله أو دمج أكثر من إضراب في موعد واحد.
ردّ ماوريتسيو لانديني، الأمين العام للاتحاد الإيطالي العام للعمل، كان حازمًا، واعتبر تصريحات الوزير «غير مقبولة»، مؤكدًا أن «من يُضرب يتخلى عن أجر يوم عمل كامل، وفق ما يسمح به القانون الإيطالي». وأوضح أن التشريعات الإيطالية تتيح إعلان إضراب عام من دون مهلة عشرة أيام في حال وقوع أحداث جسيمة وغير متوقعة تمسّ النظام الدستوري أو سلامة المواطنين، كما حدث في قضية النشطاء الإيطاليين المشاركين في أسطول الصمود.
أما المعارضة السياسية، فقد دافعت زعيمة الحزب الديمقراطي إيلي شلاين عن الحق الدستوري في الإضراب، متهمة الحكومة بمحاولة تقويض هذا الحق عبر استغلال الجدل القانوني لقمع الأصوات المعارضة.
ما حدث في الثالث من أكتوبر لا يمكن النظر إليه فقط كحدث اقتصادي، بل كرسالة سياسية قوية. فاليوم الذي توقفت فيه إيطاليا عن الحركة كان يومًا عبّر فيه الشارع عن تضامنه مع غزة، وأثبت أن الاقتصاد يمكن أن يكون سلاحًا سياسيًا عندما تُستخدم أدواته في وجه الظلم. وبينما تجاوزت خسائر اليوم الواحد مليار يورو، فإن قيمته الرمزية، كما يرى المشاركون فيه، كانت أثمن بكثير من الأرقام.
مقالات ذات صلة: من بينها Airbnb: خمس شركات عالمية كبرى متورطة في دعم الاستيطان في الضفة والقدس











