
تثير خطط إعادة إعمار غزة بعد الحرب نقاشًا واسعًا حول مستقبل القطاع، ليس فقط من ناحية إنسانية أو سياسية، بل أيضًا كفرصة اقتصادية واستثمارية غير مسبوقة قد تغيّر وجه المنطقة. تقف خلف هذه الرؤية شخصيات بارزة مثل جارد كوشنر، صهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يسعى، بدعم سعودي، إلى إنشاء مراكز متقدمة للذكاء الاصطناعي في القطاع، إلى جانب اهتمام متزايد من مستثمرين ومليارديرات عالميين يتطلعون إلى بيئة اقتصادية مرنة خالية من الضرائب والتعقيدات التنظيمية.
يتصور القائمون على الخطة، ومن بينهم رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، أن غزة يمكن أن تتحول إلى واحة تكنولوجية واقتصادية، تُعرف كـ”مدينة شركات ناشئة” تستقطب الاستثمارات في مجالات الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية والطاقة المتجددة. وتشير التصورات الأولية إلى إنشاء مناطق حرة تُقام فيها مراكز بيانات ضخمة لشركات مثل “تسلا”، يعمل فيها آلاف الموظفين المحليين بتكاليف تشغيل منخفضة. هذه الرؤية، بحسب مطوريها، قد تجعل من غزة نموذجًا اقتصاديًا فريدًا في الشرق الأوسط، إذا ما تحققت الشروط الأمنية والسياسية المطلوبة.
تأتي هذه المبادرات في وقت تشهد فيه السعودية نفسها نهضة رقمية غير مسبوقة، مدفوعة باستثمارات ضخمة من شركات مثل “إنفيديا” و”أمازون” لإقامة حوسبة سحابية متطورة داخل المملكة، ضمن خطة لتحويلها إلى قوة عالمية في مجال الذكاء الاصطناعي. كما دخل صندوق الاستثمارات العامة السعودي (PIF) في شراكة مع صناديق أمريكية كصندوق “أفينتي” الذي أسسه كوشنر، وصندوق “سيلفر ليك” المرتبط بالإمارات، في واحدة من أكبر صفقات الاستحواذ في عالم الألعاب الإلكترونية، لشراء شركة “إلكترونيك آرتس” الأميركية بقيمة تقارب 55 مليار دولار. الهدف من هذه الخطوة هو جعل السعودية مركزًا عالميًا لصناعة الألعاب والرياضة الإلكترونية.
ويرى محللون أن مثل هذا الانخراط الاقتصادي السعودي قد يشكل مدخلًا لتسريع خطوات التطبيع مع إسرائيل، لكن بشروط وضوابط معقدة. تعتقد هداس لوربر، مديرة مشروع إسرائيل-الولايات المتحدة في معهد دراسات الأمن القومي، في حديثها مع غلوبس، بأنّ تزايد دور كوشنر وبلير في رسم مستقبل غزة يشير إلى تحولات إقليمية محتملة، حيث يمكن للمشاريع الاقتصادية أن تكون وسيلة لتقريب الرياض من مسار التطبيع، وإن كان ذلك على مراحل.
وتوضح لوربر لغلوبس أن “السيناريو المرجّح هو نموذج تدريجي، لا يفرض حسمًا سياسيًا فوريًا لقضايا مثل إنشاء الدولة الفلسطينية، بل يركز على التنمية الاقتصادية كوسيلة لبناء الثقة وخلق واقع جديد يسمح بتفاهمات مستقبلية”. وتضيف أن إدارة ترامب ترى في هذا النوع من المشاريع وسيلة لـ”التحكم الاقتصادي” بالمنطقة عبر رأس المال المحلي والدولي، وهو ما قد ينعكس على شكل النظام الإقليمي بأكمله.

في المقابل، يحذر خبراء آخرون من أن هذه الخطط لا يمكن أن تتجاوز العقبات السياسية والأمنية العميقة. فالدكتور يويل غوزنسكي، الخبير في شؤون الخليج بمعهد الأمن القومي، يرى في حديثه مغ غلوبس أن “إسرائيل لم تستعد بعد مكانتها التي كانت تتمتع بها قبل الحرب، وأن الحديث عن تطبيع في الوقت الراهن سابق لأوانه”. ويؤكد أن أي خطة لإعادة إعمار غزة أو لإقامة منطقة اقتصادية متطورة هناك ستصطدم بأسئلة صعبة تتعلق بمستقبل الحكم في القطاع، وضمان الأمن، وموقف الفصائل الفلسطينية من أي ترتيبات جديدة.
أما الدكتورة ميخال يعاري، المتخصصة في شؤون الخليج في جامعة بن غوريون، فتشير في حديثها مع غلوبس إلى أن السعودية لا تزال تعتبر إقامة دولة فلسطينية شرطًا أساسيًا لأي تطبيع مع إسرائيل، ليس فقط من منطلق التضامن مع الفلسطينيين، بل انطلاقًا من قناعة استراتيجية بأن استمرار الصراع سيقوّض الاستقرار ويهدد مصالح المملكة الاقتصادية والأمنية. وتضيف أن المستثمرين والسياح الأجانب لن يغامروا بالدخول في منطقة ما لم يشعروا بالأمان الكامل على حياتهم وأموالهم، وأن صور الدمار التي بثتها وسائل الإعلام العربية من غزة أضعفت صورة إسرائيل في نظر الرأي العام الخليجي.
وتؤكد يعاري أن مكانة إسرائيل السياسية في نظر السعودية تضررت بشدة بعد الحرب، إذ باتت تُنظر إليها كدولة منقسمة داخليًا تهيمن عليها تيارات متشددة. ومع ذلك، لا تستبعد أن توافق الرياض على التقدم نحو اتفاق في حال توقف الحرب وبدء مسار سياسي جدي مع القيادة الفلسطينية، معتبرة أن المملكة تتعامل ببراغماتية وتوازن بين مصالحها الاقتصادية والتزاماتها السياسية.
من جانبه، يعتقد غوزنسكي أن تركيز السعودية الحالي منصب على سوريا، حيث تعمل على بناء نفوذ سياسي واقتصادي هناك في مواجهة إيران وقطر والإمارات. لكنه يضيف أن المملكة قد تنخرط فعليًا في مشاريع غزة إذا تأكدت من التزام الأطراف الدولية، وضمان تفكيك الفصائل المسلحة، واستقرار الأوضاع الأمنية.
مقالات ذات صلة: نهاية الحرب ليست سوى البداية: 52 مليار دولار تكلفة إعادة الإعمار.. وإزالة 50 مليون طن من الأنقاض قد يحتاج 20 عامًا











