تشهد الساحة الدولية تحولًا دبلوماسيًا غير مسبوق مع تسارع موجة الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وهو مسار لا يقتصر على الجانب الرمزي أو السياسي بل يمتد ليترك بصماته على الاقتصاد الإسرائيلي وعلاقاته التجارية، في وقت يعاني فيه الفلسطينيون من أزمة اقتصادية خانقة لكن مع فرص جديدة للانفتاح على التمويل الدولي.
خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، أعلنت بريطانيا وكندا وأستراليا والبرتغال رسميًا اعترافها بفلسطين، ولحقت بها فرنسا وبلجيكا ولوكسمبورغ ومالطا وموناكو وأندورا. هذه الخطوة جاءت ضمن المبادرة الفرنسية–السعودية التي صاغت “إعلان نيويورك” الداعي إلى وقف الحرب في غزة، والوصول إلى تسوية إقليمية شاملة. الإعلان أُقر بأغلبية ساحقة بلغت 142 دولة مقابل 10 دول معارضة، ليصل عدد الدول المعترفة بفلسطين إلى 156 من أصل 193 عضوًا في الأمم المتحدة، أي نحو 80% من المجتمع الدولي.

أثر مباشر على العلاقات الاقتصادية لإسرائيل
إسرائيل تجد نفسها أمام تحديات متزايدة مع مشاركة ثلاث دول من مجموعة الدول الصناعية السبع (G7) في الاعتراف، وهي فرنسا وبريطانيا وكندا. أهمية ذلك أن هذه الدول لا تملك فقط ثقلًا سياسيًا بل تتحكم بجزء كبير من التجارة العالمية والأسواق المالية. كما أن مشاركتها قد تفتح الباب أمام ما يسمى “تأثير العدوى”، أي دفع مؤسسات كبرى مثل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) لتوسيع إدماج فلسطين في المحافل الدولية.
على الصعيد العملي، هذه الدول قادرة على تغيير قواعد اللعبة التجارية: فرض قيود على منتجات المستوطنات، تعديل أنظمة الجمارك لصالح الفلسطينيين، أو تشديد معايير الامتثال البيئي والاجتماعي والحوكمة (ESG) على الاستثمارات المرتبطة بإسرائيل. مثل هذه الخطوات ترفع كلفة رأس المال الإسرائيلي، بينما تسهّل توجيه الأموال إلى مشاريع فلسطينية.
الأرقام التي نشرتها دائرة الإحصاء المركزية مؤخرًا تُظهر أن الصادرات إلى أوروبا بين يونيو وأغسطس تراجعت بمعدل سنوي بلغ 15.4%، وفي الاتحاد الأوروبي وحده بنسبة 24.8%. الصادرات الإجمالية إلى أوروبا هبطت من 49.2 مليار شيكل في يناير–أغسطس 2024 إلى 42.9 مليار شيكل في الفترة نفسها من 2025. التراجع كان أكثر وضوحًا مع دول مثل إيرلندا التي شهدت انخفاضًا في الصادرات الإسرائيلية إليها بنسبة 50%، من 2.2 مليار دولار إلى 1.1 مليار.

تركيا بدورها فرضت حظرًا تجاريًا كاملًا، ما أدى إلى انهيار الصادرات إليها من 1.15 مليار دولار في 2023 إلى 7 ملايين فقط في الأشهر الثمانية الأولى من 2025. هذا الحظر مسّ بشكل خاص قطاع البناء، إذ كانت تركيا مصدر 45% من الإسمنت المستورد و20% من الحديد والصلب لإسرائيل، ما انعكس على ارتفاع تكاليف البناء. ورغم أن بنك إسرائيل صرّح بأن البلاد تمكنت من إيجاد بدائل للبضائع التركية، وإن كان بكلفة أعلى، وعبر تحايلات وطرق بديلة، إلا أن الأوساط التجارية الإسرائيلة تدرك أن الالتفاف على عقوبات تجارية تقودها عدة دولة ذات وزن دولي لن يكون أمرًا سهلًا على الإطلاق.
مقترح المفوضية الأوروبية
التحدي الأكبر يظل مقترح المفوضية الأوروبية تعليق بعض امتيازات التجارة الممنوحة لإسرائيل بموجب اتفاقية الشراكة، وهو المقترح الذي وُلِدَ في ظلّ الزخم الدولي ضد إسرائيل وموجة الاعترافات بدولة فلسطينية، وهو ما يعني -إن تمّ إقراره- فرض رسوم جمركية على صادرات تصل قيمتها إلى نحو 5.8 مليار يورو. القرار لم يُقر بعد، إذ يتطلب أغلبية مؤهلة داخل المجلس الأوروبي. وقد يعرقل اعتماده غياب دعم من ألمانيا وإيطاليا، لكن مجرد طرحه يخلق مناخًا من عدم اليقين ويضيف مخاطر تنظيمية وأسعار فائدة أعلى على المشاريع والاستثمارات الإسرائيلية.
في البورصة الإسرائيلية انعكس هذا القلق بهبوط المؤشرات الرئيسية بنسبة تتراوح بين 5% و7% في الأسبوعين الأخيرين، مدفوعًا بخوف المستثمرين من توسع الإجراءات العقابية.
الفلسطينيون بين الأزمة والفرص
بالنسبة للفلسطينيين، الاعتراف الدولي يمثل فرصة للتحول من تلقي المساعدات الإنسانية الطارئة إلى الحصول على تمويلات تنموية مؤسسية. دول الـG7 التي اعترفت قادرة على تفعيل أدوات مثل صناديق ائتمان متعددة المانحين، أو ضمانات ائتمانية لمشاريع البنية التحتية في قطاعات المياه والطاقة والصحة. هذه الأدوات تنوع قنوات التمويل وتقلل الاعتماد على قنوات خاضعة لسيطرة إسرائيل.
مع ذلك، الاقتصاد الفلسطيني يمر بأزمة عميقة منذ حرب غزة عام 2023: عجز مالي متفاقم، تراجع الناتج المحلي، فقدان الوظائف، وتدمير شبه كامل للبنية الاقتصادية في القطاع. لذا، حتى مع تدفق الاعترافات والوعود، يبقى تحقيق نمو حقيقي رهينًا برفع القيود الإسرائيلية على المعابر والموارد.

الدور السعودي كان محوريًا في المبادرة الفرنسية–السعودية. الرياض التي أعادت في 2024 تقديم دعم مالي شهري للسلطة الفلسطينية، بينها دفعة قيمتها 30 مليون دولار في يونيو الماضي، ربطت بوضوح أي تطبيع مع إسرائيل بإنهاء الحرب والتوصل إلى حل الدولتين. هذا الموقف يعكس تحولًا في السياسة السعودية التي باتت أكثر انخراطًا في الدفع باتجاه تسوية شاملة تعطي للفلسطينيين دولة معترفًا بها، حتى على حساب خلاف محتمل مع واشنطن.
اعتماد إسرائيلي متزايد على واشنطن
في مواجهة هذا السيل من الضغوط، لم يبقَ لإسرائيل سوى الاعتماد شبه الكامل على الولايات المتحدة. الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تبنى الموقف الإسرائيلي واعتبر الاعتراف بفلسطين “مكافأة لحماس”، متعهدًا بعرقلة أي قرار ضد إسرائيل في مجلس الأمن.
لكن ترمب نفسه قابل قبل يومين مجموعة من قادة الدول العربية والإسلامية، من بينها مصر وتركيا وقطر وإندونيسيا وباكستان، وتعهد بحسب مصادر صحفية بوقف الحرب في غزة ومنع ضم الضفة الغربية. مقاربة ترامب البراغماتية، القائمة على حسابات الصفقات، قد تجعل من هذه مساندته لإسرائيل مشروطة وقد تُترجم مستقبلًا إلى صفقات قد لا تكون إسرائيل أكبر المستفيدين منها.
مقالات ذات صلة: في ثلاثة أشهر: تراجع الصادرات الإسرائيلية إلى أوروبا 15% مع تصاعد الدعوات لمقاطعة تل أبيب











