
يدور في الأوساط الاقتصادية في إسرائيل جدل واسع حول التكلفة الاقتصادية المحتملة لأي خطوة مستقبلية في قطاع غزة، خصوصًا في ظل غياب توقعات رسمية واضحة من وزارة المالية وبنك إسرائيل. فبينما تقوم تقديرات هاتين الجهتين، منذ أكثر من عام، على فرضية انتهاء الحرب في الربع الأخير من العام، تتواصل العمليات العسكرية وتتسع، مؤذنة باحتلال كامل للقطاع، ما يجعل تلك التوقعات شبه عديمة الجدوى. هذا الغموض يترك الساحة لمراكز بحث مستقلة مثل “معهد أهارون” للسياسة الاقتصادية في جامعة رايخمان، الذي يرأسه نائب محافظ بنك إسرائيل السابق البروفيسور تسفي إكشتاين، لتقديم سيناريوهات بديلة مقلقة.
في يونيو الماضي رفعت وزارة المالية تقديرات النمو لعام 2025 إلى 3.6%، لكنها اضطرت بعد شهرين فقط إلى خفضها إلى 3.1%. بنك إسرائيل فعل الشيء ذاته عندما خفّض توقعاته في يوليو إلى 3.3%، ومن المرجح أن تواصل توقعاته الانخفاض مع استمرار الحرب. في المقابل، يرى معهد أهارون أن السيناريو الأكثر تشاؤمًا، وهو احتلال كامل لغزة، قد يؤدي إلى نمو لا يتجاوز 0.7% في 2025 مع مسار تصاعدي في نسبة الدين إلى الناتج حتى 90% في 2030 و115% في 2035، ما يهدد بأزمة مالية خانقة.
ثلاثة سيناريوهات مختلفة
المعهد عرض ثلاثة سيناريوهات محتملة. الأول، وهو الأكثر تفاؤلًا، يتمثل في التوصل إلى تسوية بحلول نهاية 2025 تشمل إعادة جميع الأسرى وتسليم إدارة غزة لجهة دولية أو إقليمية. في هذا الوضع سيبلغ النمو 2.2% في 2025 ثم يقفز إلى نحو 3.7% في 2026 و2027، مع تراجع تدريجي في الإنفاق الأمني الذي تجاوز 8% من الناتج في 2024 و2025.
الثاني، استمرار الوضع الراهن من دون تسوية، حيث تتحمل إسرائيل مسؤولية توزيع الغذاء على سكان القطاع، وقد يقود استمرار الوضع إلى فرض عقوبات أوروبية تدريجية على إسرائيل وخفض النمو إلى 1.3% في 2025 ودون 2% في العامين التاليين.

أما السيناريو الثالث، وهو الذي يبدو أن الحكومة الحالية تتجه نحوه، فيتعلق باحتلال كامل للقطاع مع إدارة عسكرية مباشرة، الأمر الذي يعني إنفاقًا أمنيًا ضخمًا، عقوبات غربية حادة، تصاعد الانقسام الداخلي ورفض الخدمة العسكرية، فضلًا عن تراجع في قطاع الهايتك وهجرة كفاءات إلى الخارج.
النموذج الذي يعتمد عليه معهد أهارون لحساب تأثير هذه السيناريوهات يرتكز على تقديرات حجم الغياب عن سوق العمل بسبب استدعاء قوات الاحتياط. ففي الربع الثاني من 2025، بلغ متوسط عدد جنود الاحتياط نحو 100 ألف، خصوصًا بسبب الحرب مع إيران. استمرار هذا المستوى في حالة احتلال غزة يعني غياب عشرات الآلاف من قوة العمل لسنوات مقبلة، ما يضغط على الإنتاجية والتوظيف. بينما في حالة التسوية قد ينخفض العدد تدريجيًا إلى 50 ألف بحلول 2026، وهو ما يتيح عودة النشاط الاقتصادي بوتيرة أسرع.
لكن الخطر الأكبر يكمن في نسبة الدين إلى الناتج المحلي. ففي السيناريو المتشائم ستقفز النسبة من 60.5% في 2022 إلى 69% في 2024 ثم إلى 90% في 2030، وهو مسار قد يهدد بزعزعة الاستقرار المالي. حتى السيناريوهات الأقل تشاؤمًا، مثل استمرار الوضع الراهن بلا تسوية، ستدفع النسبة إلى 88% في 2025. الحل الوحيد للحد من هذه الزيادة، وفقًا للمعهد، يتمثل في تسوية سياسية مترافقة مع إصلاحات هيكلية في سوق العمل، خاصة بزيادة مشاركة العرب والحريديم.
البروفيسور إكشتاين يحذر من أن الاحتلال العسكري لغزة سيعني “عقدًا ضائعًا”، مشيرًا إلى أن دولًا مثل بريطانيا وهولندا وإسبانيا قد تفرض عقوبات قاسية تكلف الاقتصاد نحو 1.5 نقطة مئوية من النمو سنويًا. كما أن استمرار التوتر سيزيد من رفض الخدمة العسكرية ويشجع على هجرة الكفاءات في قطاع الهايتك، حيث ظهرت بالفعل مؤشرات على ذلك. ومع أن الربع الثاني من 2025 شهد ارتفاعًا في استثمارات الهايتك لتصل إلى 2.7 مليار دولار، وهو أفضل أداء منذ منتصف 2022، إلا أن هذه القفزة بُنيت على توقعات بتسوية، لا على واقع الاحتلال.
مقالات ذات صلة: اقتصاد البقاء: غياب مصادر الدخل يدفع الغزيين لبيع المساعدات التي خاطروا بحياتهم للحصول عليها











