/
/
أزمة مالية وسياسية عميقة في باريس: الشرارة الفرنسية تهدد بإشعال منطقة اليورو

أزمة مالية وسياسية عميقة في باريس: الشرارة الفرنسية تهدد بإشعال منطقة اليورو

تشهد فرنسا في الأسابيع الأخيرة تصاعد أزمة مالية وسياسية متشابكة تهدد بتداعيات تتجاوز حدودها الوطنية لتصيب الاتحاد الأوروبي بأسره، وتهدد اليورو كعملة احتياطية عالمية، وتجد فرنسا نفسها أمام ثلاثة سيناريوهات مصيرية للمستقبل.
أيقون موقع وصلة Wasla
wasla brands

تشهد فرنسا في الأسابيع الأخيرة تصاعد أزمة مالية وسياسية متشابكة تهدد بتداعيات تتجاوز حدودها الوطنية لتصيب الاتحاد الأوروبي بأسره. الأزمة، التي وصفها بعض المحللين بـ”بداية حريق مالي”، تعكس مزيجاً من الغموض السياسي وارتفاع المخاطر في أسواق الدين، ما أعاد إلى الأذهان مشاهد أزمة الديون الأوروبية قبل أكثر من عقد.

منذ إعلان رئيس الوزراء فرانسوا بايرو عزمه طرح حكومته لتصويت ثقة في 8 سبتمبر المقبل، تزايدت حالة القلق في الأسواق. فقد ارتفع العائد على السندات الحكومية الفرنسية لأجل عشر سنوات إلى نحو 3.5%، بينما اتسع الفارق مع السندات الألمانية إلى 77 نقطة أساس، وسط توقعات من شركة “كارمينياك” لإدارة الأصول بأن يصل إلى 100 نقطة أساس إذا تصاعدت الأزمة، وهو مستوى لم يُسجل منذ أزمة اليورو في 2012. هذا الفارق، المعروف في الأسواق باسم Spreads، يعد من أبرز مؤشرات القلق، لأنه يحدد علاوة المخاطر التي يطالب بها المستثمرون مقابل الاحتفاظ بسندات دولة تُعتبر أقل أماناً من ألمانيا، صاحبة التصنيف الأعلى في منطقة اليورو.

eu
الأزمة الفرنسية تتجاوز حدود البلاد وتهدد دول منطقة اليورو بأكملها

بداية حريق مالي

صحيفة لوموند الفرنسية رأت أن الإعلان عن تصويت الثقة كان بمثابة صدمة جديدة، إذ أدى إلى تراجع ملحوظ في بورصة باريس وارتفاع متطلبات العائد على السندات. وزارة المالية الفرنسية، المعروفة باسم بيرسي، اضطرت للتدخل سريعاً عبر رسائل طمأنة واجتماعات مع كبار المستثمرين لمحاولة احتواء الموقف.

التحذير الأساسي هو أن فقدان الثقة قد يمتد من الحكومة إلى الشركات الخاصة، ما يعني ارتفاع تكلفة التمويل للجميع، الأمر الذي يهدد خطة الإصلاح المالي التي تستهدف خفض العجز إلى 4.6% من الناتج المحلي في 2026. مع الدين العام الفرنسي الذي تجاوز 113% من الناتج المحلي، فإن فاتورة الفوائد الإضافية قد تصبح عبئاً ثقيلاً يصعب احتماله.

مخاطر تتجاوز فرنسا

المعهد الوطني للإحصاء أشار إلى أن استثمارات الشركات الفرنسية غير المالية تراجعت أو جمدت منذ الانتخابات المبكرة في 2024، وهو ما أفقد الاقتصاد الفرنسي أحد أهم محركات النمو طويل الأمد. في ظل نمو ضعيف متوقع لا يتجاوز 0.7% في 2025 وعجز مالي بلغ 5.4% من الناتج المحلي، حذر رئيس اتحاد أرباب العمل الفرنسي باتريك مارتن من أن الاستثمار يتراجع بشكل خطير، ما يضع البلاد في موقع متأخر أمام منافسيها الأوروبيين.

لكن الخطر الحقيقي يتجاوز الاقتصاد الفرنسي نفسه. فبحسب محللين أوروبيين، أي اهتزاز في ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو قد يُضعف صورة اليورو كعملة احتياطية عالمية، وهو ما يثير قلقاً أكبر. فاليورو يمثل 20.5% من احتياطيات النقد الأجنبي العالمية في 2025، مقابل أكثر من 58% للدولار الأمريكي. وإذا تراجعت الثقة في فرنسا، فقد تدفع البنوك المركزية العالمية إلى تقليص حيازاتها من اليورو لصالح الدولار أو حتى اليوان الصيني.

Design for website 8
“أي اهتزاز في ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو قد يُضعف صورة اليورو كعملة احتياطية عالمية”

سيناريوهات المستقبل

أمام هذا الوضع، تطرح التحليلات ثلاثة سيناريوهات رئيسية لما قد تشهده فرنسا بعد تصويت الثقة في سبتمبر:

الأول: تمرير الثقة واستمرار خطة الضبط المالي
في حال نجحت حكومة بايرو في كسب الثقة، ستكسب فرنسا بعض الوقت لاستعادة المصداقية. قد يؤدي ذلك إلى تراجع تدريجي في علاوة المخاطر على السندات واحتواء الفارق مع ألمانيا دون 100 نقطة أساس. الأسواق قد تستجيب بخفض طفيف في تكاليف الاقتراض، مما يسهل إدارة الدين العام. لكن التأثير يبقى محدوداً لأن النمو ضعيف والثقة في الاقتصاد لم تستعد بعد قوتها. في هذه الحالة ستكون النتيجة استقراراً مالياً نسبياً من دون تحسن جوهري في الاستثمار أو النمو.

الثاني: فشل التصويت وتشكيل حكومة ضعيفة
إذا فشلت الحكومة، سيضطر الرئيس ماكرون إلى تعيين رئيس وزراء جديد يقود حكومة أقلية أو ائتلاف هش. هذا السيناريو يطيل أمد الضبابية ويُبقي الفارق مع ألمانيا في نطاق 80-100 نقطة أساس. قد يتأثر التصنيف الائتماني لفرنسا سلباً، ما يعني زيادة تكلفة الاقتراض للشركات وضعف تدفقات الاستثمار الأجنبي. باختصار، ستترتب على هذا السيناريو ضبابية ممتدة، وارتفاع في فاتورة الدينون، وخطر تخفيض التصنيف الائتماني.

 الثالث: حل البرلمان والذهاب إلى انتخابات مبكرة
السيناريو الأكثر كلفة هو الدعوة لانتخابات مبكرة، ما يعني فراغاً سياسياً قد يستمر لأسابيع أو أشهر. هذا الوضع سيدفع المستثمرين لإعادة تسعير شامل للأصول الفرنسية، مع تجاوز الفارق مع ألمانيا عتبة 100 نقطة أساس. عندها قد يجد البنك المركزي الأوروبي نفسه مضطراً لاستخدام أدوات غير تقليدية مثل شراء السندات لدعم الاستقرار. النتيجة المتوقعة هي اتساع فجوة المخاطر، وتراجع الاستثمار الأجنبي المباشر، وضعف جاذبية اليورو أمام الدولار واليوان.

خلافاً لأزمات العقد الماضي التي طالت دول الأطراف مثل اليونان والبرتغال، فإن الأزمة الحالية تضرب في صميم الكتلة الأوروبية: فرنسا نفسها. هذه المفارقة تجعل الأسواق أكثر حساسية لأي إشارات سلبية من باريس. محللون في فاينانشال تايمز حذروا من أن استمرار الغموض يضعف موقف بروكسل في الملفات الاستراتيجية مثل الطاقة والسياسات الدفاعية، ويقوّض قدرة أوروبا على لعب دور موازٍ للولايات المتحدة في النظام المالي العالمي.

مقالات مختارة