لا مكان آمن في غزة، ورغم ذلك، لا يجد السكان أمامهم خيارًا آخر كلما اشتد القصف على المكان الموجودين فيه، أو صدرت أوامر إخلاء بحقهم، أو شن الجيش الإسرائيلي عملية برية جديدة. فكل محاولة للهرب إلى مكان يُفترض أن يكون أكثر أمانًا، تتحول إلى رحلة تثقل كاهل العائلات بالديون والنفقات التي لا طاقة لهم بها، في وقت لا يجد فيه معظم السكان مالًا يكفي حتى لسد رمقهم.
تكاليف النقل وحدها أصبحت عقبة كبرى أمام عشرات الآلاف من العائلات. إذ يصل ثمن استئجار شاحنة صغيرة للانتقال من مدينة غزة مثلًا إلى منطقة المواصي في خانيونس بين 800 و1000 شيكل، وهو مبلغ يستحيل على كثير من الأسر تحمّله في ظل واقع اقتصادي متردٍّ تجاوزت فيه نسبة الفقر 90%، والبطالة 83%، وهي من أعلى المعدلات عالميًا. أما أسعار الوقود فقد شهدت قفزة جنونية منذ اندلاع الحرب، إذ ارتفع سعر اللتر من نحو 5 شواكل قبل الحرب إلى أكثر من 130 شيكلًا في السوق السوداء، ما جعل التنقل شبه مستحيل، وزادته صعوبة الدمار الهائل الذي حوّل الطرق إلى ركام وحفر.

شهادات من قلب النزوح
سعيد وهدان (32 عامًا) من مخيم جباليا روى لموقع “العربي الجديد” كيف أصبح النزوح هاجسًا يطارده بعد أن تحولت منطقته إلى “منطقة حمراء”. يقول: “عندما نزحت أول مرة احتجت 600 شيكل لشاحنة صغيرة، ولم أُدبِّر المبلغ إلا بعد أن استدنت من أحد أقاربي. واليوم لا أملك أي مال لنزوح جديد”. ويضيف بحسرة: “كل مرة ندفع مبالغ طائلة لمجرد الانتقال، ثم نكتشف أن المكان الجديد نفسه لم يعد آمنًا، فنجد أنفسنا مضطرين للتفكير في نزوح جديد، ما يدمر ما تبقى من ميزانية الأسرة”.
أما بلال عبده (41 عامًا) من حي الصفطاوي شمال غزة فيرفض فكرة النزوح أساسًا رغم القصف، موضحًا أن “المشكلة ليست فقط في مئات الشواكل المطلوبة للنقل، بل بما بعد الوصول”. ويضيف: “اليوم الخيمة وحدها تجاوز سعرها ألفي شيكل، فكيف لعائلة بلا دخل أن تتحمل ذلك؟ النزوح يعني أن نخسر كل شيء ونعيش في خيمة مكلفة لا نستطيع ثمنها”.
القصة لا تقف عند حدّ الاستدانة أو رفض النزوح. محمود رويشد (36 عامًا) من بيت لاهيا اضطر إلى النزوح سبع مرات منذ بداية الحرب، آخرها في مايو الماضي حين عجز عن دفع 500 شيكل لشاحنة فاضطر إلى السير مع عائلته مسافات طويلة. يقول في حديثه مع العربي الجديد: “النزوح عندنا ليس قرارًا بل عجزًا. نعرف أن البقاء خطر، لكن النزوح مكلف إلى درجة كبيرة، فنحن معلقون بين الموت والفقر”.
وتروي فداء المطوق (26 عامًا) من جباليا، لموقع العربي الجديد، مأساة أخرى. فبعد أن فقدت زوجها في قصف مدفعي في يونيو، لتجد نفسها وحيدة مع ثلاثة أطفال. لم يكن لديها مال للنقل، فاختارت المشي معهم إلى شاطئ غزة. تقول: “نزحنا بلا مال، فقط أردت إنقاذ أولادي. حملنا ما استطعنا وتركنا الباقي. الآن أفكر ببيع أدوات المطبخ البسيطة التي بقيت لدي، تحسبًا لنزوح جديد”. وتختم بمرارة: “أكثر ما يرعبني ليس القصف، بل فكرة أنني قد أضطر لحمل أطفالي والمشي بهم مرة أخرى بلا مال ولا وسيلة نقل“.
مقالات ذات صلة: الحرب اقتربت من النهاية؟ الأمم المتحدة تطرح مناقصة عاجلة لتوفير عشرات آلاف الكرفانات لسكان غزة











