
رغم الحديث عن جهود “إنسانية” لمساعدة قطاع غزة، تتكشف تفاصيل حول الأجندة السياسية والدينية والمسيانية التي تقف خلف آلية توزيع هذه المساعدات، وخلف شركة SRS المكلفة بتوزيع المساعدات وإقامة مراكز توزيعها، والتي أثارت شبهات فساد واستغراب حتى لدى الأوساط الرسمية الإسرائيلية، إذ تمّ ذلك دون أي مناقصة رسمية، بل عبر فريق عينه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
وبحسب مصادر صحفية عديدة، فإنّ الجهة التي دفعت باتجاه اختيار الشركة مرتبطة بمجموعة غير رسمية تُعرف باسم “منتدى مكفيه يسرائيل”، والتي تضم رجال أعمال وجنود احتياط إسرائيليين، وتهدف أن يوزع مقاولون من القطاع الخاص الغذاء في غزة لتجاوز منظمات الإغاثة التابعة للأمم المتحدة مثل الأونروا.
وبحسب تقرير لموقع mekomit نقلًا عن تحقيق لهآرتس، فإنّ من هؤلاء الرجال رجال أعمال لديهم خلفية أيديولوجية واضحة، من بينهم من يتبنى خطابًا يحتفي بـخطاب لا إنساني ضد سكان قطاع غزة، ويحرض الجيش ويشيد به عند انتهاك أبسط حقوق الإنسان تحت غطاء البراغماتية.
من بين أبرز أعضاء هذه المجموعة ليران تانكمان، رجل أعمال في مجال السايبر، ويوتام كوهين، مؤسس شركة “دوالوغ” للاستشارات الاستراتيجية؛ والمستثمر الأميركي الإسرائيلي مايكل آيزنبرغ.
كوهين، المعروف بتوجهاته الليبرالية الاقتصادية المتطرفة، كتب خلال الحرب مقالًا يمجّد ما وصفه بـ”روح قطاع الطرق” في الجيش، مشجعًا على كسر القواعد والمعايير الإنسانية من أجل “تحريك المنظومة”. هذا الانحياز للفوضى يُترجم أيضًا في عمله الاستشاري، حيث تروّج شركته “دوالوغ” لفكرة أن عدم الاستقرار هو فرصة للنمو، ويجب تسويقه كرؤية استراتيجية للشركات.
أما آيزنبرغ، فقد تلقّى تعليمه بحسب موقع mekomit، في يشيفات هار عتصيون وأكمل دراسته في جامعة يشيفا الأميركية (على الهامش، أحد أشهر خريجي هذه الجامعة هو باروخ جولدشتاين مرتكب مجزرة الحرم الإبراهيمي سنة 1994). يُعرف آيزنبرغ بتوجهه الرأسمالي المتشدد، وأفكاره النيوليبرالية المتطرفة، إذ يعتبر أن دعم الحكومة للفقراء يشكل “فخ للرفاهية”، ويدعو بدلًا من ذلك إلى ضخ الأموال في أيدي رجال الأعمال والرياديين. إلى جانب استثماراته، يشغل آيزنبرغ عضوية في مجلس إدارة “يشيفات هار عتصيون” ويرأس منظمة “الشومير هحداش”.
شركة SRS نفسها، المرتبطة بشركة “تو أوشن ترست” الأميركية، متخصصة في إدارة أموال العائلات الثرية، والحفاظ على ثرواتها عبر قنوات ضريبية ضيقة وعلاقات سلطة ورأس مال متشابكة. وبهذا تتداخل مصالح حماية رؤوس الأموال مع آليات المساعدات “الإنسانية”.
وفي خطوة أكثر دلالة، عُيّن القس الإنجيلي جوني مور رئيسًا لمنظمة GHF، وهي الهيئة التي تُشرف على SRS لتأمين توزيع المساعدات. مور كان مستشارًا بارزًا في حملة دونالد ترامب الرئاسية عام 2016، ويُعرف بخطابه المعادي للأقليات، ويدعم أغلب سياسات ترمب الاقصائية.
مور، كغيره من رموز اليمين الإنجيلي، يعبر عن رؤية دينية-سياسية ترى في إسرائيل محورًا لتحقيق نبوءات مسيحية، تتعلق بعودة المسيح المرتبطة بقوة دولة إسرائيل. وهو صديق مقرب، للسفير الأميركي في إسرائيل مايك هاكابي الداعم الكبير للاستيطان، والذي صرح سابقًا بأنهم سيحققون “تغييرًا بأبعاد توراتية في الشرق الأوسط خلال ولاية ترمب”، قائلًا “هناك يهودا والسامرة، لا يوجد شيء اسمه الضفة الغربية، لا شيء اسمه استيطان (غير قانوني)”.
وقال في تصريح آخر بأنه “لا يوجد شيء اسمه فلسطيني”، مقترحًا أن “الدولة الفلسطينية” يمكن أن تقوم في فرنسا لا بين النهر والبحر. وخلال الحرب الحالية ضد إيران، أرسل رسالة تعج بالعبارات التوراتية تحثّ الرئيس ترمب على ضرب إيران. هاكابي أيضًا تدخّل في قضايا داخلية إسرائيلية حساسة مثل تجنيد اليهود الحريديم لمنع انهيار الائتلاف الحاكم المؤيد للضم، وهو سلوك غير مسبوق لسفير أجنبي.
وتنخرط الطوائف الإنجيلية في الولايات المتحدة في إرسال الدعم للجنود الإسرائيليين باسم المسيح، فيما تروّج قنواتهم التلفزيونية لرسائل الدعاية الإسرائيلية لملايين الأميركيين. وهم يشكلون قاعدة انتخابية كبيرة داعمة لترمب، تقدر بـ80 مليون شخص، وهو رأس حربة دعم إسرائيل في العالم التي تعول عليه عندما يلفظ العالم اسمها كالطاعون.
ويؤمن العديد من أتباعها المتطرفين بأهمية الدعم غير المشروط لدولة إسرائيل انطلاقًا من قناعة لاهوتية بأن قيام إسرائيل ذات قوة وسلطة، على المساحة الجغرافية المذكورة في التوراة، يحقق نبوءات دينية ويُمهّد لعودة المسيح. ويؤدي هذا الدعم، خاصة لدى صناع القرار الأمريكيين الذي يتلقون دعمًا من هذه اللوبيات، إلى تبرير أو تجاهل الانتهاكات التي تمارسها إسرائيل ضد الفلسطينيين، كالتي نشهدها يوميًا في مراكز تقديم المساعدات التي تديرها هذه الشركات، وإلى تجاهل قيام دولة فلسطينية، وغض الطرف عن الاستيطان، بل حتى دعمه.
ولا نستطيع حين نفكر بالقيادات الدينية وراء هذه الشبكات، إلا أن نتذكر تحذير المسيح، نصير المظلومين، ممن يتحدثون زيفًا باسمه، ومن الأنبياء الكذبة الواردين في إنجيل متى: “يَقُومُ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ كَثِيرُونَ وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ”.











