/
/
البيوت العربية المسلوبة في القدس الغربية: أبواب موصدة في وجه أصحابها وصفقات لبيعها بعشرات الملايين

البيوت العربية المسلوبة في القدس الغربية: أبواب موصدة في وجه أصحابها وصفقات لبيعها بعشرات الملايين

في أحياء القدس الغربية، لا تزال البيوت الفلسطينية، التي شُيّدت في النصف الأول من القرن العشرين، شاهدة على فترة مزدهرة أضاعتها نكبة فلسطين. وقد كشفت صحيفة "هآرتس" قبل يومين، أن أحد هذه البيوت المسلوبة بيع في صفقة عقارية ضخمة، تبلغ 79 مليون شيكل من قبل الملياردير اليهودي الأمريكي مايكل شتاينهاردت.
أيقون موقع وصلة Wasla
wasla brands
1024px بيوت من حيّ الطالبية
أحد البيوت العربية الباقية في حي الطالبية بالقدس، صورة توضيحية، المصدر: ويكيميديا

في أحياء القدس الغربية مثل الطالبية، والقطمون، والبقعة، الحي اليوناني والحي الألماني، لا تزال البيوت الفلسطينية، التي شُيّدت في النصف الأول من القرن العشرين، شاهدة على فترة أضاعتها نكبة فلسطين، ازدهرت خلالها طبقة برجوازية عربية بنَت بيوتها خارج أسوار البلدة القديمة، واستلهمت عمارتها ولمساتها الجمالية من مدارس معمارية إسلامية وأوروبية، تجمع بين الأعمدة الرخامية، والأقواس الواسعة، وحجارة بيت لحم البيضاء، والحدائق المُسيّجة بأشجار الزيتون والليمون.

من بين أبرز هذه البيوت، منزل المربي الفلسطيني خليل السكاكيني في حي القطمون، الذي كتبت عنه ابنته هالة في سيرتها الذاتية “أنا والقدس”، بعد أن  زارته في عام 1967 بعد احتلال الشطر الشرقي من المدينة، لأول مرة منذ تهجيرها وعائلتها عام 1948، فوجدته هرِمًا باهتًا، وقد تحول من بيت يعج بالحياة عامر بالكتب والأحبة والأصدقاء، إلى مبنى مهملٍ حينها، وقد أصبح اليوم يستخدم كروضة أطفال. وهو ما يذكر بمنزل الكاتب الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد في حي الطالبية، الذي يُستخدم اليوم كمقر للقنصلية اليونانية.

ومن بين البيوت الشهيرة أيضًا في أحياء القدس الغربية، منزل عائلة طرشة، المزيّن ببوابة حديدية غنية بزخارف فنية، وقد صار مقرًا للقنصلية الإسبانية. ومنزل عائلة سلامة، الذي كان في قلب ميدان يحمل اسمها، لكنه تحوّل الآن إلى مقر للقنصلية البلجيكية، بينما أعيد تسمية الميدان إلى “ميدان وينجيت”. في هذه الأحياء، تنتشر اليوم مؤسسات إسرائيلية مركزية مثل مسرح القدس، ومنزل رئيس الدولة، ومعهد فان لير، وعدد من المقاهي والمطاعم، بعضها داخل هذه البيوت الفلسطينية، التي استولت عليها إسرائيل بعد عام 1948.

يشير الباحث خليل تفكجي إلى أن هذه الأحياء تمثل ذروة الازدهار المعماري العربي، إذ بناها مهندسون فلسطينيون وأجانب، ونفذها عمال ونقاشون من بيت لحم، باستخدام الحجارة المستخرجة من دير ياسين، القرية التي شهدت إحدى أبشع المجازر في أبريل 1948، والتي أسهمت في نشر الرعب بين الفلسطينيين. معظم هذه البيوت فُرغت من محتوياتها بعد الاحتلال، بما في ذلك المكتبات الخاصة، وتم إسكان مهاجرين يهود فيها. المفارقة أن سكانها الجدد في حالات كثيرة هم مثقفون وأكاديميون وأطباء وقضاة، كما أورد المؤرخ الإسرائيلي دافيد كروينكر، الذي يشير إلى أن أحياء مثل الطالبية كانت مفضلة لأساتذة الجامعة العبرية لقربها من مقر الجامعة المؤقت آنذاك في عمارة تيراسانطا.

1024px بيوت من حيّ الطالبية2
أحد البيوت العربية الباقية في حي الطالبية بالقدس، صورة توضيحية، المصدر: ويكيميديا

من المشاهد المأساوية ذات المفارقة، أن العديد من هذه البيوت لا تزال تحمل لافتات رخامية باقية من زمن أصحابها الأصليين، نُقشت عليها عبارات بالعربية مثل “الملك لله” أو “هذا من فضل ربي”. ويروي أنسطاس دوميانوس، وهو فلسطيني من أصول يونانية يقيم في الحي اليوناني منذ ستين عامًا، أنه عرف مستوطنًا يُدعى موشيه تورنيتسكي، اعترف له بأنه ظل ثلاث سنوات يعاني الأرق بسبب إقامته في بيت مسلوب. هذا المستوطن النادر من نوعه بحث عن صاحب المنزل الأصلي، فوجده في لندن، وسدد له ثمن البيت الذي طُرد منه عام 1948. لكنّ هذه الحالة تظل استثناء نادرًا، فغالبية هذه البيوت التي وقعت ضحية الاستيلاء بالقوة بعد التهجير، سكنها السكان الجدد دون حتّى أن يسمحوا لأصحابها العرب بمجرّد زيارتها، وناموا وينامون فيها الليل الطويل!

وفي السياق ذاته، كشفت صحيفة “هآرتس” قبل يومين، أن أحد هذه البيوت المسلوبة بيع في صفقة عقارية ضخمة. المنزل، الواقع في حي الطالبية، بُني في ثلاثينيات القرن الماضي، ويُعد من البيوت العربية التي لا تزال تحتفظ بأغلب خصائها المعمارية الأصلية. المنزل تبلغ مساحته 650 مترًا مربعًا ويقع على أرض بمساحة 860 مترًا مربعًا تحيط بها حديقة مزروعة بأشجار مثمرة، ويضم جناحًا سكنيًا رئيسيًا وقسم منفصًلا ملحقًا بالبيت، ويتميز بخشبه المصنوع يدويًا، وبلاطه الأصلي الذي تعود إلى عشرينيات القرن الماضي، وجدرانه التي تتيح التكييف الطبيعي.

المنزل بيع بمبلغ 79 مليون شيكل من قبل الملياردير اليهودي الأمريكي مايكل شتاينهاردت، أحد كبار “جامعي” القطع الفنية القديمة في العالم. شتاينهاردت هذا هو نفسه الذي اضطر في السنوات الأخيرة إلى تسليم 180 قطعة أثرية مسروقة ومهربة بشكل غير قانوني من 11 دولة، بينها آثار فلسطينية مسروقة من الضفة الغربية وأخرى مصرية، وتبلغ قيمتها 70 مليون دولار، بعد تحقيق أمريكي انتهى بمنعه مدى الحياة من اقتناء أي قطع أثرية جديدة.

هكذا تُباع هذه البيوت العربية اليوم في صفقات خاصة خلف أبواب الصالونات المغلقة، دون أن يُتاح لأصحابها الأصليين حتى رؤيتها، تُباع في صفقات يعقدها “لصوص المدافن”، كما وصفهم محمود درويش في إحدى قصائده، حين قال: “لصوص المدافن لم يتركوا للمؤرخ شيئاً يدل علي. ينامون في جثتي أينما طلع العشب منها، وقام الشبح”.

مقالات مختارة