
صادقت الحكومة الإسبانية هذا الشهر على قانون يقضي بخفض أسبوع العمل من 40 ساعة إلى 37.5 ساعة فقط، بهدف تحسين إنتاجية الموظفين وتقليص نسب الغياب. غير أن دراسة كورية أكدت مؤخرًا على جانبٍ لا يقلّ أهمية يتعلق بخطر ساعات العمل الطويلة، التي تبيّن أنّها لا تؤثر فقط على الصحة العامة للموظفين، بل تُحدث تغيرات ملموسة في بنية أدمغتهم.
البحث الذي نُشر هذا الأسبوع في مجلة متخصصة بالطب المهني والبيئي، شمل 110 عاملين في قطاع الصحة، وقسمهم إلى مجموعتين: الأولى لأشخاص يعملون أكثر من 52 ساعة أسبوعيًا، والثانية لأشخاص يعملون عدد ساعات طبيعي لا يتجاوز الحد القانوني. المفاجأة لم تكن فقط في الشعور بالإرهاق أو الضغط، بل في التغيرات التي ظهرت عند إجراء صور دماغية دقيقة للمجموعة الأولى، والتي أظهرت اختلافات في مناطق مرتبطة بالذاكرة، التركيز، التحكم العاطفي، والوعي الاجتماعي.
الدراسة توصلت إلى أن العمل المفرط يمكن أن يُحدث تغييرات حقيقية في بنية الدماغ، وخاصة في تلك الأجزاء التي تتحكم بالوظائف التنفيذية مثل القدرة على اتخاذ القرار، وضبط الانفعالات، والاستجابة للتوتر. الباحثون أشاروا إلى أن هذه التغيرات ليست بالضرورة دائمة، لكن استمرار التعرض للضغط الناتج عن ساعات عمل مفرطة قد يجعلها أكثر عمقًا وخطورة.
تُضاف هذه الدراسة إلى سلسلة أبحاث سابقة تؤكد أن العمل الزائد لا يضر بالجسد فقط، بل بالعقل أيضًا. ففي عام 2021، نشرت كل من منظمة العمل الدولية ومنظمة الصحة العالمية تقريرًا مشتركًا كشف أن ساعات العمل الطويلة تتسبب في أكثر من 745 ألف حالة وفاة سنويًا، بسبب أمراض القلب والسكتات الدماغية. كما رُبطت ساعات العمل الطويلة بارتفاع معدلات الإصابة بالسكري بين النساء، وتدهور في الأداء المعرفي والإدراكي.
العبرة التي أراد الباحثون إيصالها لا تتعلق فقط بأرقام أو تحذيرات صحية، بل بفهم أعمق لعلاقة الإنسان بالعمل. فبينما يراهن أرباب العمل على الإنتاجية، تُظهر الأدلة أن زيادة ساعات العمل لا تعني بالضرورة مزيدًا من الإنجاز، بل ربما العكس تمامًا. ومع تصاعد الضغوط الاقتصادية والمخاوف من التراجع في سوق العمل، يلجأ الكثيرون إلى العمل لساعات أطول، دون أن يدركوا أن الثمن قد يكون وظائف دماغية أساسية تتآكل بصمت.
ورغم أن العينة التي استُخدمت في الدراسة الكورية كانت صغيرة ومحصورة بعاملين في مجال الصحة، فإن العلماء شددوا على أهمية توسيع نطاق الأبحاث لتشمل شرائح مهنية أخرى، مؤكدين أن النتائج الحالية تمثل جرس إنذار حقيقي للحكومات وأرباب العمل.
في هذا السياق، تبرز إسبانيا كنموذج جريء في التعامل مع هذه الأزمة. فبدلًا من السعي لزيادة ساعات العمل، اختارت تقليصها، إدراكًا منها أن الموظف المنهك لا يُنتج أكثر، بل أقل.
مقالات ذات صلة: وداعًا للعمل من المنزل: الشركات العالمية تفرض الحضور في المكاتب، فماذا عن شركات البلاد؟











