
يوم الأربعاء 15-10-2025، وبينما كانت الأوضاع الاقصتادية تشهد تحسنًا بعد الأعياد وانتهاء الحرب، قُتل شخصان رميًا بالرصاص في وضح النهار على الطريق 433، أحدهما كان عابر سبيل بريئًا – سيرجي ماتوف، الذي ترك خلفه زوجة حامل وطفلة تبلغ من العمر عامًا واحدًا. خلفية الحادث الذي وقع هذه المرة في مدينة اللد كانت نزاعًا بين مجرمين من المجتمع العربي. وفي اليوم نفسه، قُتِلَ في إطلاق نار الشاب نضال مساعدة، أمام المدرسة التي يعمل فيها حارسًا في كفر ياسيف، وفي اليوم ذاته أيضًا، أُعلن عن وفاة الطبيب زياد أبو عابد من رهط، البالغ من العمر 27 عامًا، والذي كان يعمل في مستشفى سوروكا، بعد أن أُصيب بجروح خطيرة مطلع الشهر في حادث إطلاق نار في مدينته. وفي الليلة التالية، قُتل ثلاثة آخرون، اثنان في الشمال وواحد في النقب.
يتكرر “حمام الدم” هذا كل عام بعد الأعياد اليهودية منذ ما يقارب الثلاثة سنوات، أي منذ تشكيل الحكومة الحالية وتولي إيتمار بن غفير منصب وزير الأمن القومي، حيث تضاعف عدد القتلى في المجتمع العربي مقارنة بالسنوات السابقة، مع أكثر من 200 قتيل سنويًا، إلى جانب آلاف الجرحى.
ضحايا جرائم القتل في المجتمع العربي خلال العقد الأخير

أحمد (اسم مستعار)، شاب في العشرينات من عمره من سكان أم الفحم، هو أحد ضحايا الواقع الدموي، إذ أُطلق عليه خلال عام 2024 سبعة عشر رصاصة، أصابت بعضها ساقيه. حدث ذلك في حي الباطن في المدينة، حيث كان يعمل مرشدًا للسلامة للشباب ضمن مشروع “أوقفوا النزيف”، وهو مشروع مشترك بين وزارة الأمن القومي والنيابة العامة والشرطة. تتمثل مهمة المرشد في التواجد في المناطق التي يتجمع فيها الشبان المعرضون للتورط في أعمال عنف، خصوصًا في ساعات المساء، ومحاولة منع انجرارهم إليها.
وفقاً لمحمد سامي، المسؤول عن المشروع في بلدية أم الفحم، فإنه في غضون شهرين من بدء نشاط أحمد في الميدان، انخفض عدد المكالمات الواردة من الجيران في تلك المنطقة من 65 مكالمة شهرياً إلى خمس مكالمات فقط، كما تغير أيضاً مضمون المكالمات. فبدلاً من شكاوى حول تخريب الممتلكات، أو الاعتداء على أشخاص، أو تعاطي مخدرات، أصبحت المكالمات تتعلق بالضجيج بشكل رئيسي. إلا أنه في بداية عام 2025، تم اتخاذ قرار بتقليص الميزانية المخصصة لـ”السطلة الوطنية للأمن المجتمعي” التي تعمل ضمن إطار وزارة الأمن القومي. على إثر ذلك، تم فصل أحمد، بالإضافة إلى مرشد آخر للسلامة، وذلك على الرغم من الرصاصات التي تعرض لها في تلك الحادثة. أما المرشدون الآخرون الذين عملوا في البرنامج، فقد تم تقليص ساعات عملهم أو تحويلهم إلى وظائف بدوام جزئي.

مصير أحمد الشخصي قد يكون تجسيدًا لمصير المشروع بأكمله. فمن جهة، هو برنامج يحمل الكثير من الإمكانات والنوايا الحسنة، ومن جهة أخرى، يعاني من تجفيف الميزانيات وقرارات تصدر من الأعلى، أي من المستويات السياسية، ما يؤدي إلى إضعاف المشروع وتثبيط عزيمة العاملين في الميدان. يقول سامي: “في أم الفحم يعيش أشخاص من فئات مختلفة — هناك من يحاولون أن يعيشوا حياة طبيعية، وهناك مجرمون، وهناك أشخاص في المنطقة الرمادية. نحن نحارب هنا من أجل حياة يومية طبيعية وهادئة، وهذا تحدٍّ كبير جدًا”.
“شاب عمره 25 عامًا كان على علاقة بإحدى عصابات الجريمة وأُطلق سراحه من السجن. سجّله أحد المنسّقين لدينا في دورة مهنية يكتسب فها خبرة تمكنه من فتح مشروع صغير وبدء حياة جديدة. لكن منظمات الجريمة ما زالت تحاول إغراؤه”.
ووفقاً له، تم تحديد ثماني ‘نقاط ساخنة’ في أم الفحم ضمن إطار المشروع، أي أماكن يحتمل أن تحدث فيها أعمال عنف أو تخريب. ويضيف سامي: “ست نقاط منها تراجعت فيها المشاكل بالفعل بعد تركيب كاميرات ونشر عناصر على الأرض. ولقد شعرنا أننا وجدنا المعادلة الصحيحة، ولكن بعد ذلك حصلت التخفيضات في الميزانيات. ولم يؤثر هذا فقط على القوى العاملة، بل أثر أيضاً على ميزانية الإعلام. فبعد أن كنا نستثمر 35 ألف شيكل في الشبكات الاجتماعية، وفي مقاطع الفيديو والمضامين الموجّهة للشباب بهدف الحد من العنف، انخفض المبلغ إلى عشرة آلاف شيكل فقط”.
النقاط الساخنة ودوائر الانتقام
يُنفَّذ برنامج “أوقفوا النزيف” كمشروع تجريبي في سبع سلطات محلية عربية في أنحاء البلاد. انطلق البرنامج عام 2022 في إطار القرار رقم 549 الذي اتخذته حكومة بينيت–لابيد قبل عام من ذلك. وقد تقرر ضمن هذا القرار تخصيص ملياري شيكل على مدى خمس سنوات لتمويل برامج مختلفة تهدف إلى مكافحة الجريمة في المجتمع العربي، وكان هذا البرنامج أحدها. البلدات التي اختيرت هي طُرعان، طمرة، جسر الزرقاء، أم الفحم، الطيبة، اللد، ورهط، وهي بلدات كانت (وبعضها ما يزال) من أكثر المناطق دموية في السنوات التي سبقت إطلاق البرنامج. ومن المقرر أن تكون السنة القادمة، 2026، هي السنة الأخيرة له، حيث سيُحسم خلالها ما إذا كان سيُمدَّد البرنامج وكيفية استمراره.

الفكرة وراء برنامج “أوقفوا النزيف” هي اختيار منطقة محددة وتركيز جهد مشترك فيها يشمل الوقاية، وإنفاذ القانون، والعمل المجتمعي، من خلال تعاون بين السلطات المحلية والحكومة على ثلاث مستويات: “السلطة الوطنية للأمن المجتمعي”، النيابة العامة، والشرطة. في بدايته، كان البرنامج يحظى أيضًا بمرافقة أكاديمية من قسم علم الجريمة في الجامعة العبرية، وكانت منظمة “جوينت” هي الجهة التي تولّت تنسيقه، لكن في منتصف الطريق تم إيقاف مشاركتها من قبل وزير الأمن القومي الحالي، إيتمار بن غفير.
تشرح وصال رعد، مركّزة مشروع إعادة التأهيل والاقتصاد الشموليّ في جمعية “سيكوي–أفق” التي درست كيفية تطبيق المشروع، أن مصطلح “النقطة الساخنة” هو مفهوم مركزي في البرنامج. وتقول: “في كل بلدة يوجد مدير للبرنامج، ولديه عدة مهام منها تحديد النقاط الساخنة التي تقع فيها حوادث عنف. إذا وُجدت ظواهر مثل التخريب، أو تعاطي المخدرات أو الكحول، يتم إرسال مرشدين إلى تلك الأماكن لمعالجة هذه الظواهر، وبناء علاقة مع الشباب لإيجاد أطر أو أنشطة مناسبة لهم في الميدان. وأحيانًا، تكون هناك حاجة أيضًا لتحسين المظهر العام في تلك المواقع وجعلها أكثر ترتيبًا ونظافة. في رهط، على سبيل المثال، كان هناك نقص في المرافق العامة، كما أن البلدة مليئة بأكوام النفايات التي كان الناس يستغلونها لإخفاء الأسلحة”.

ومن الأمور التي كان يتم القيام بها في إطار البرنامج هو تحديد أسماء المجرمين المعروفين الذين أُطلق سراحهم من السجن أو الذين لديهم سجل جنائي معروف لدى الشرطة، وذلك لتحقيق هدفين: لمتابعتهم وإنفاذ القانون من جهة، ومن جهة أخرى لتوجيههم نحو تأهيل مهني مناسب أو أي مسار آخر بعيد عن عالم الجريمة. وبحسب تقرير صادر عن جمعيتي مبادرات ابراهيم ومركز تعزيز المواطن نُشر في مايو 2024، تم توظيف ستة منسقين لإعادة تأهيل السجناء في السلطات المحلية المختلفة ضمن إطار البرنامج. كما سُجّل ارتفاع بنسبة 16٪ في عدد المستفيدين الذين تلقّوا دعمًا نتيجة زيادة القوى العاملة. ويحكي سامي عن إحدى الحالات: “شاب عمره 25 عامًا كان على علاقة بإحدى عصابات الجريمة وأُطلق سراحه من السجن. سجّله أحد المنسّقين لدينا في دورة مهنية يكتسب فها خبرة تمكنه من فتح مشروع صغير وبدء حياة جديدة. لكن منظمات الجريمة ما زالت تحاول إغراؤه”.
“نموذج سوروكا” هو أحد الإجراءات الوقائية التي تمّ تطبيقها خلال البرنامج، وهو ثمرة تعاون بين مستشفى سوروكا وبلدية رهط. وبحسب مسؤول رفيع في النيابة العامة، عدما يُصاب شخص من رهط بإطلاق نار ويُنقَل إلى المستشفى، يتم تبليغ ممثلي المجتمع المحلي في رهط، الذين يباشرون على الفور بالتواصل مع المصاب وأفراد عائلته، بهدف تهدئة النفوس وتقليل خطر حدوث أعمال انتقامية أو عنيفة. ومن المخطط أن يبدأ تطبيق هذا النموذج أيضًا في مدينة أم الفحم وفي مستشفى هعيمك في العفولة اعتبارًا من يناير 2026.
تبذل أيضًا جهود أخرى على مستوى المجتمع المحلي في مجال الوساطة، خصوصًا في حالات النزاعات بين العائلات. بحسب وحيد الصانع، مدير الأمن الجماهيري في بلدية رهط، فعندما تقع حوادث عنف فيها إصابات، تُجرى محاولات وساطة بين العائلات لمنع الأعمال الانتقامية. في هذا المسار يوجد طرف ثالث، أي شخص ضامن، يقوم بإيداع مبلغ من المال لإثبات الجدية، كما تُنشر نتائج عملية الوساطة أمام أهالي القرية من أجل تعزيز الثقة بها. ويروي الصانع قصة شاب ليست له أي علاقة بعالم الجريمة، لكنه أُصيب برصاص شخص من عائلة تُعد خصمًا لعائلته. ويقول إن أفرادًا من العائلتين سافروا معًا بعد الصلح في رحلة إلى المغرب. ويضيف الصانع: “هو لا يعرف بالضبط من الشخص الذي أطلق عليه النار، لأن ذلك جزء من عملية الوساطة”. ويتابع: “أما في حالة القتل، فالوضع مختلف؛ فالمشاعر تكون ما زالت مستعرة ولا تسمح بأمر كهذا. يجري عقد صلح، لكن نحاول أن نُبقي كل عائلة على مسافة من الأخرى”.

“الشرطة تعرف، والعالم كله يعرف”
رغم البداية الواعدة والأفكار الخلّاقة، إلا أن البرنامج خلال السنوات الثلاث الأخيرة لم ينجح في تثبيت الجهود بشكل منتظم وفعّال يقلّل من الجريمة. فعلى سبيل المثال، بعد أن أُزيلَت أكوام النفايات في رهط في البداية على يد الشرطة، عادت لتظهر من جديد. يقول الصانع: “في نهاية عام 2022 نفذت الشرطة عمليتين كبيرتين للبحث عن الأسلحة في أكوام النفايات، وتم خلالهما إخراج أكثر من 215 شاحنة قمامة من المكان. لكن منذ ذلك الحين لم يحدث شيء. في رهط – الجديدة توجد الآن خمس مناطق مليئة بالنفايات، وإذا حاولت إزالتها سيهاجمك الناس ويقولون لك: ’ماذا تفعل هنا؟‘ لأن هناك أسلحة مخبأة. هذه منطقة لا تخضع لملكية واضحة أو جهة مسؤولة محددة، لذلك قدرة البلدية على العمل فيها محدودة جدًا، بينما تخلّت الدولة فعليًا عنها وتركتها دون رقابة أو إدارة”.

حتى محاولات الوساطة المجتمعية لا تنجح دائمًا، وخصوصًا عندما تكون الشرطة غائبة أو حضورها غير كافٍ. بأسى يتحدث مراد عماش، رئيس المجلس المحلي في جسر الزرقاء، عن جريمة قتل روزيت جربان (36 عامًا) في أغسطس الماضي أثناء عودتها من البحر: “بدأ هذا النزاع قبل عام. اثنان ملثمان أطلقا النار على شاب بعد أن اتهماه بأنه أحرق سيارتهما. إخوة الضحية حاولوا الانتقام من إخوة المعتقلين، فقاموا بإحراق منازل وسيارات، واستمر النزاع بين العائلتين. بذلنا جهودًا كبيرة لمنع حدوث هذه الجريمة، شارك فيها ممثلون عن وزارة الرفاه الاجتماعي وسكان من البلدة. حاولنا إقناع الشباب بأن الجناة اعتُقلوا، فابقوا في بيوتكم أو اذهبوا إلى العمل، لكن فكرة الانتقام كانت مسيطرة على عقولهم”.
ChatGPT said:
ويضيف عماش: “للأسف، النزيف لم يتوقف في جسر الزرقاء. هناك عدة أسباب لذلك. فالأمر لا يقتصر على التعاون بين المجلس المحلي والسكان، بل نحن بحاجة إلى قوات شرطة قوية ومتواجدة فعليًا على الأرض. هناك انتشار كبير للأسلحة، إلى جانب نزاعات بين مجموعات من الشبان الذين يتصرفون وكأنهم ميليشيات مسلحة. الشرطة تعرفهم، والعالم كله يعرفهم، لكنهم لا يضعون حدًا لنشاطهم الإجرامي”.
يمكن تحديد نقطتين أساسيتين أثرتا على تنفيذ البرنامج. الأولى كانت خلال عام 2023، بعد فترة قصيرة من تولي إيتمار بن غفير منصبه في وزارة الأمن القومي، حين قرر استبعاد منظمة “جوينت” من البرنامج، وهي منظمة دولية قديمة ذات خبرة واسعة في العمل مع وزارات حكومية مختلفة، بحجة أنها “منظمة يسارية”. وجاء هذا القرار رغم أن البرنامج أُعدّ بالتعاون مع طاقم “جوينت”، وبفكرة أن سكان السلطات المحلية العربية سيكون لديهم ثقة أكبر في جهة غير حكومية. أما التأثير الكبير الآخر لخروج منظمة “جوينت” فكان في مجال جمع المعلومات والتقييم، إذ كان من المفترض أن يرافق البرنامج إشراف أكاديمي من قبل البروفيسور بادي حسيسي رئيس قسم علم الجريمة في الجامعة العبرية، لكن وفقًا لمصدر حكومي مطلع على التفاصيل، فإنه منذ مغادرة منظمة “جوينت” للبرنامج في نوفمبر 2023 لم يكن هناك أي إشراف أكاديمي.

بعد انسحاب منظمة “جوينت”، بدأ تنفيذ البرنامج بالتعثر، وأصبح يعتمد على الوضع الاقتصادي لكل سلطة محلية، كما أصبح واضحًا أنه لا توجد جهة محددة تتولى مسؤوليته بشكل فعلي. من الناحية الرسمية، انتقلت مسؤوليته إلى السلطة الوطنية للأمن المجتمعي، لكنها هيئة جديدة نسبيًا وتُعتبر ضعيفة. وقبل نحو شهرين استقالت رئيسة الهيئة، رونيت عوفديا، وتعمل الهيئة حاليًا من خلال قائم بأعمال.
يقول عضو الكنيست يوآف سيغالوفيتش من حزب “يش عتيد”، وهو لواء متقاعد شغل منصب نائب وزير الأمن الداخلي والمسؤول عن مكافحة الجريمة في المجتمع العربي في حكومة بينيت–لابيد: “هذا البرنامج، إلى جانب برامج أخرى تتعلق بالعنف في المجتمع العربي، كان من أفضل الأمور التي حدثت في فترة الحكومة السابقة. ظاهريًا قالوا إن البرنامج لم يتوقف، لكن عمليًا وعلى المستوى المهني أصبح برنامجًا غير فعّال. لا يحدث شيء على أرض الواقع، لقد شُلّت هذه الخطة تمامًا”. مصدر حكومي يؤكد هذا الكلام قائلًا: “انسحاب منظمة جوينت أعاد البرنامج خطوات كبيرة إلى الوراء. بن غفير واجه صعوبة في إيجاد بدائل داخل وزارته لمديري البرنامج السابقين من منظمة جوينت، ولذلك تلقى البرنامج ضربة قاسية”.

أما المحطة الثانية في الانهيار الفعلي للبرنامج فكانت عند وقوع تقليص حاد في ميزانية سلطة الأمن المجتمعي الذي نُفذ في بداية عام 2025 بنسبة تراوحت بين 15 و30 في المئة، فكاد أن يؤدي إلى إغلاقها، لكنه في جميع الأحوال ألحق ضررًا كبيرًا بعمل موظفي السلطة في أنحاء البلاد، بما في ذلك في السلطات المحلية السبع المشاركة في برنامج “أوقفوا النزيف”. نحو 80 في المئة من ميزانية البرنامج مخصصة لتمويل القوى العاملة، أي للمنسقين الميدانيين مثل أحمد الذي فُصل من عمله في أم الفحم. وفي هذا الوضع باتت كل سلطة محلية مضطرة لتقرر بنفسها كيف ستتعامل مع الأزمة.
في بلدة طُرعان، على سبيل المثال، وهي بلدة يبلغ عدد سكانها 15 ألف نسمة، حصلت عام 2022 على ميزانية قدرها 686 ألف شيكل لتنفيذ البرنامج، إلا أن البرنامج متوقف منذ مايو هذا العام، بعدما اضطرت السلطة إلى فصل تسعة موظفين بسبب نقص الميزانية. تقول حنان صباح، مديرة السلطة الوطنية للأمن المجتمعي في البلدة: “استطعنا تشغيل البرنامج حتى شهر مايو، ثم اتخذنا قرارًا بتجميده. لم تعد لدينا موارد، فتوقفت كل الأنشطة، مثل العمل الميداني والتعاون مع النيابة العامة والشرطة”.
وتضيف صباح بأنها لا تعرف بعد مصير البرنامج في العام المقبل. “انخفضت نسبة الجريمة لدينا، وعدنا فعليًا إلى الوضع الذي كان قبل أزمة عامي 2018–2019، لكن لا يمكننا أن نعرف ما إذا كان ذلك نتيجة مباشرة للبرنامج أو بسبب عوامل أخرى، لأنه لم تُجرَ أي عملية تقييم أو قياس”. ويعتقد مصدر في النيابة العامة أن للبرنامج دورًا حاسمًا في ذلك، قائلاً: “هذه بلدة أعادت تنظيم نفسها. كان هناك عمل مكثف ضمن برنامج ’أوقفوا النزيف‘، ولم يتحقق الهدوء فيها فقط بسبب اتفاق الصلح الذي تم في يوليو 2021، بل أيضًا نتيجة جهد واسع من أبناء المجتمع المحلي إلى جانب عمل جدي من أجهزة إنفاذ القانون. النيابة العامة ما زالت تتابع العمل هناك وتبدي اهتمامًا كبيرًا بالمنطقة”.
“نحن في شهر سبتمبر، ولم نحصل على الأموال بعد”
الاهتمام وحده لا يكفي، فحتى في جسر الزرقاء التي ذُكرت سابقًا، لم يتوقف النزيف. اثنتان من المدن السبع المشاركة في البرنامج، وهما رهط واللد، تحتلان المرتبتين الثالثة والسادسة على التوالي في معدل الجريمة العنيفة في البلاد، أي بعدد الضحايا مقارنة بعدد السكان، وذلك وفق تقرير مشترك نُشر في أغسطس الماضي صادر عن حركة حرية المعلومات، وموقع Madlan، وموقع N12. وقد تضمن التقرير معطيات حول حالات الاعتداء العنيف في جميع السلطات المحلية في البلاد، وقام موقع “شومريم” بتحليل البيانات الخاصة بالبلدات السبع المشاركة في برنامج “أوقفوا النزيف”، لعرض الصورة الكاملة لأعمال العنف فيها، وتحديدًا حالات القتل.


هذه البيانات، التي تغطي السنوات 2021–2024، لا تُظهر اتجاهًا واضحًا لانخفاض كبير في معدلات الجريمة. ففي بعض الأماكن هناك ارتفاع طفيف في عدد الحوادث الإجرامية، وفي أماكن أخرى سُجّل انخفاض، بينما بقي الوضع كما هو في مناطق أخرى. أما في جرائم القتل، فقد سُجّل ارتفاع حاد خلال عامي 2023 و2024 في عدد من المدن المشاركة في البرنامج، كما هو الحال في باقي أنحاء البلاد. يقول مصدر رفيع في النيابة العامة لموقع “شومريم”: “فكرة البرنامج هي خلق جهد مشترك بين سلطات وهيئات مختلفة. علينا التفكير في طرق إضافية لتهدئة النزاعات، فاليوم يمكن لمنشور على إنستغرام أن يتطور إلى جريمة قتل، أو أن يؤدي حادث بسيط مثل مرور شخص فوق مطبّ وتضرر سيارته إلى غضب ينتهي بجريمة قتل. الأمور تشتعل من الصفر إلى أقصى حد في لحظة“.
في الطيبة، على سبيل المثال، بدأ البرنامج بشكل جيد، لكنه تراجع في مرحلة معينة، وكان من بين أسباب التراجع غياب مدير للبرنامج هناك لفترة من الوقت. في النهاية، إذا كانت لديك خطة جيدة لكنك لا تنجح في تنفيذها، فهذه مشكلة. وفي جسر الزرقاء أيضًا لم يكن هناك مدير مُعيَن قبل السلطة الوطنية للأمن المجتمعي لعدة أشهر. مؤخرًا، تمّ تعيين حنين حاج يحيى مصاروة، وهي من سكان الطيبة، رئيسة لقسم شؤون المجتمع العربي في السلطة الوطنية للأمن المجتمعي، وهي الآن المسؤولة عن برنامج “أوقفوا النزيف”.

ستنشر جمعية “سيكوي–أفق” قريبًا ورقة سياسات تتعلق بالبرنامج، تستند إلى مقابلات أُجريت مع مديري البرنامج في بلدات مختلفة ومع موظفين في الوزارات الحكومية. ووفقًا للدراسة التي وصلت تفاصيلها إلى موقع “شومريم”، يواجه البرنامج عدة عقبات، من بينها مشكلات في عمل الشرطة، وضعف المشاركة المجتمعية، ونقص في القوى العاملة. وأشارت الدراسة خصوصًا إلى ضعف التنسيق بين السلطات المحلية والشرطة، إذ أبلغت بعض البلدات عن عدم تلقيها معلومات أو تحديثات منتظمة من الشرطة حول الوضع في النقاط الساخنة وفي أماكن أخرى.
كشفت الدراسة أيضًا عن مشكلات في توظيف القوى العاملة، فمن جهة هناك موظفون لم يتلقوا تدريبًا مناسبًا، ومن جهة أخرى تواجه السلطات المحلية صعوبة في استقطاب كوادر مهنية مؤهلة بسبب أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية المتدنية التي لا تتيح لها تقديم رواتب مجزية. ورغم أن الدولة من المفترض أن تحول ميزانية مخصصة للمشروع — وهو ما لم يحدث حتى الآن هذا العام — فإن السلطات المحلية القوية ماليًا تستطيع أن تزيد الأجور من مواردها الخاصة. كذلك، في حال حدوث تقليص في الميزانية أو تأخر في تحويل الأموال في بداية السنة، فإن استمرار النشاط يعتمد عندها على قدرة كل سلطة محلية على استخدام سقف الائتمان المتاح لها.
تقول راوية حندقلو، التي شغلت حتى وقت قريب منصب مديرة غرفة الطوارئ لمكافحة الجريمة والعنف في المجتمع العربي نيابة عن لجنة رؤساء السلطات المحلية العربية: “من وجهة نظر المسؤولين في الحكومة والنيابة العامة، يُعتبر هذا مشروعًا رائدًا، لكن هناك فجوات في الفهم حول كيفية عمله فعليًا. توجد الكثير من العقبات، ولم يُنفذ البرنامج بشكل كامل، بل ضاع بين الجهات المختلفة. وزارة الأمن القومي لم تأخذ هذا البرنامج بجدية، بل أضعفته. في جلسات اللجان داخل الكنيست يُشار إلى البرنامج كقصة نجاح، لكن الأرقام لا تعكس ذلك. البرنامج يُدار كمشروع تجريبي دون توقف جدي للتفكير في مستقبله، وهذا بحد ذاته دليل كبير على العقبات التي تواجه البرنامج”.
قريبًا ستنتهي السنة الرابعة من عمر البرنامج، الذي، كما ذُكر، لم يُنفذ بشكل متواصل وكامل كما كان مُخططًا له. وليس من الواضح بعد ما إذا كان هذا المشروع التجريبي سيستمر لسنوات إضافية أو سيتوسع ليشمل بلدات أخرى، ولا كيف سيعمل في العام القادم. وهذا يعكس جانبًا إضافيًا من طريقة تعامل الحكومة مع إحدى أكثر القضايا دموية في إسرائيل خلال هذه السنوات.











