/
/
الفضة تسرق الأنظار من الذهب: لماذا تحلّق طائرات محملة بأطنان الفضة إلى لندن؟

الفضة تسرق الأنظار من الذهب: لماذا تحلّق طائرات محملة بأطنان الفضة إلى لندن؟

أيقون موقع وصلة Wasla
wasla brands

في الأيام الأخيرة، تعيش لندن واحدة من أكثر الأزمات غرابة في تاريخ أسواق المعادن. فبينما يترقب العالم عادة تحركات أسعار الذهب، كانت الفضة هي التي سرقت الأضواء بعدما تجاوز سعر الأونصة 50 دولارًا — للمرة الثانية فقط في التاريخ — ما أدى إلى حالة فوضى في السوق دفعت بعض التجار إلى استئجار طائرات شحن لنقل سبائك الفضة من نيويورك إلى لندن من أجل الاستفادة من فرق السعر الكبير بين السوقين.

لكن ما الذي يحدث بالضبط؟ ولماذا تقف طائرات محمّلة بالفضة في قلب الأزمة المالية؟

silver
للمرة الثانية في التاريخ، تجاوز سعر الأونصة 50 دولارًا، صورة توضيحية

القصة بدأت بما يسمى في عالم المال “الضغط القصير” (Short Squeeze)، وهي ظاهرة تحدث عندما يراهن بعض المستثمرين على انخفاض الأسعار في المستقبل، من خلال ما يُعرف بـ البيع على المكشوف. في هذه الطريقة، يقوم المستثمر باستعارة الفضة من وسيط مالي وبيعها فورًا على أمل أن ينخفض سعرها لاحقًا. عندما يهبط السعر فعلاً، يستطيع أن يشتري الفضة من جديد بسعر أقل، يعيدها للوسيط، ويحتفظ بالفارق كربح. لكن إذا ارتفع السعر بدلًا من أن ينخفض، تبدأ خسارته بالاتساع، لأن عليه أن يشتري الفضة بسعر أعلى مما باعها به كي يعيدها.

هذا ما يُسمّى بـ مركز بيع قصير، أي رهان على انخفاض السعر. المشكلة في هذا النوع من الصفقات أن الخسارة فيه غير محدودة، لأن السعر قد يستمر في الارتفاع بلا سقف، بخلاف المشتري العادي الذي لا يمكن أن يخسر أكثر من المبلغ الذي دفعه. لذلك، عندما قفزت أسعار الفضة فجأة إلى مستويات تاريخية، وجد هؤلاء المستثمرون أنفسهم في مأزق: كل دقيقة تمر تعني خسائر أكبر. عندها لم يكن أمامهم سوى شراء الفضة بسرعة بأي سعر من أجل إغلاق مراكزهم، أي إنهاء الصفقة وإعادة ما استعاروه لتجنب خسائر إضافية.

لكن عندما يندفع عدد كبير من المستثمرين للشراء في الوقت نفسه، فإن الطلب المفاجئ يرفع الأسعار أكثر، ما يضاعف من الأزمة. وهكذا تتكوّن دوامة ارتفاع بالسعر متسارعة، هذه هي بالضبط ظاهرة “الضغط القصير” التي قلبت سوق الفضة رأسًا على عقب.

النتيجة كانت قفزة تاريخية في الأسعار، ونقص حاد في المعروض. التجار في لندن لم يعودوا يجدون ما يكفي من الفضة (الحقيقية) لتسليمها ضمن العقود المفتوحة، أي ضمن اتفاقات وصفقات مسبقة، والسيولة في السوق كادت تختفي. ومن أجل تلبية الطلب، لجأ البعض إلى نقل الفضة فعليًا من الولايات المتحدة إلى بريطانيا، لأن الأسعار في لندن ارتفعت بما يصل إلى 3 دولارات للأونصة مقارنة بنيويورك، وهو فرق هائل في عالم المعادن.

الوضع ازداد سوءًا لأن مخزونات الفضة في لندن انخفضت بشكل حاد خلال السنوات الأخيرة. وفق بيانات “بلومبرغ”، تراجعت الكميات المحفوظة في خزائن المدينة من نحو 850 مليون أونصة عام 2019 إلى 200 مليون فقط اليوم. ويرجع ذلك إلى عدة أسباب: ضعف إنتاج المناجم حول العالم، تزايد الطلب الصناعي على الفضة لاستخدامها في الألواح الشمسية، وتحويل جزء كبير من المعدن إلى صناديق استثمارية (ETFs) لا يُتداول بشكل حر في السوق.

london
مدينة لندن. مخزونات الفضة هناك انخفضت بشكل حاد خلال السنوات الأخيرة.

كما زادت الضغوط في الأسابيع الأخيرة مع ارتفاع مفاجئ في الطلب من الهند، حيث عادةً ما تشتري الهند الفضة من هونغ كونغ، لكنها انتقلت مؤقتًا إلى الشراء من لندن بسبب عطلة “الأسبوع الذهبي” في الصين. هذا التحول المفاجئ زاد من حدة الأزمة في أوروبا.

في الخلفية، هناك أيضًا قلق عام في الأسواق من تضخم الديون في الدول الغربية وضعف العملات، إضافة إلى التوتر السياسي في واشنطن بشأن الموازنة وإغلاق الحكومة الأمريكية، وهو ما جعل المستثمرين يتجهون إلى المعادن الثمينة، كالذهب والفضة، كملاذ آمن، ما زاد الضغط على العرض المحدود أصلًا.

في سوق الفضة اللندنية، التي تشكّل مركز التسعير العالمي منذ أكثر من قرن، وصلت الفوضى إلى درجة أن الفارق بين أسعار الشراء والبيع (المعروف باسم Bid-Ask Spread) ارتفع من 3 سنتات فقط إلى أكثر من 20 سنتًا للأونصة، وهو ما يعكس غياب السيولة وتردد البنوك في عرض أسعار محددة خوفًا من الخسارة.

تاريخيًا، شهدت الأسواق أزمة مشابهة في عام 1980، عندما حاول الأخوان الأمريكيان “هنت” احتكار سوق الفضة عبر شراء كميات ضخمة، ما أدى إلى ارتفاع حاد ثم انهيار لاحق عندما تدخلت البورصات وأجبرت المتداولين على تصفية مراكزهم. لكن الوضع اليوم مختلف؛ لا توجد هيئة مالية يمكنها التدخل بسرعة بالطريقة ذاتها، لذلك الحل الوحيد هو ضخ كميات جديدة من الفضة إلى السوق.

ولهذا بدأت طائرات الشحن عبر الأطلسي بالإقلاع. شركات لوجستية أكدت أنها تلقت طلبات عاجلة لنقل ما بين 15 و30 مليون أونصة من الفضة من خزائن بورصة كومكس (COMEX) في نيويورك إلى لندن، في أكبر عملية نقل من هذا النوع منذ أكثر من أربع سنوات. الهدف هو سد العجز وتخفيف الضغط على الأسعار.

ومع ذلك، فإن العملية ليست بسيطة. نقل سبائك بهذا الحجم يتطلب إجراءات أمنية معقدة، وتكلفة مرتفعة جدًا، فضلًا عن أن الإغلاق الحكومي الجزئي في الولايات المتحدة قد يبطئ الإجراءات الجمركية.

مقالات ذات صلة: الذهب يحطم الأرقام القياسية: طريقة الاستثمار، المخاطر، والتوقعات

مقالات مختارة