بين أزقة البلدة القديمة في الناصرة، التي تتردد فيها صرخات الباعة وتغمرها رائحة التوابل، تشكّل صوت بشارة ديب، أحد الفنانين الأكثر ارتباطًا بالموسيقى العربية، الذي كرّس حياته لها، فتحوّلتْ لديه إلى أسلوب حاة، عبر الغناء والتأليف والتدريس وصنع الآلات.
يعيش ديب حاليًا في حيفا، ويبلغ من العمر 66 عامًا، لكنّ روحه، كما يقول: “ستبقى دائمًا في الناصرة”. مسيرته المهنية في الموسيقى تمتد لأكثر من ثلاثة عقود، أصدر خلالها ألبومين، وكتب ولحّن عشرات الأغاني الأصلية، وأقام مئات العروض والحفلات، ودرّس أعدادًا كبيرة من الطلاب. وكما تنتشر نغمة العود ببطء وتتغلغل في القلب، كذلك تلامس قصة ديب جذور الثقافة والهوية وجوهر الإبداع الفني.

وُلد بشارة ديب في الناصرة عام 1959، وترعرع في أحيائها المكتظة. انجذب إلى عالم الموسيقى منذ طفولته. يتذكر قائلاً: “بدأت الغناء في جوقة المدرسة في سن مبكرة جدًا. وكنت دائمًا أستمع إلى خالي وهو يعزف على العود، وكان صوت العود يسحرني”.
على الرغم من أنه لم ينشأ في منزل موسيقي، أظهر ديب إصرارًا استثنائيًا على تعلّم الموسيقى والانخراط فيها. فتعلّم بنفسه أساسيات الموسيقى ومارس العزف بشكل مستقل لسنوات. وفي مرحلة لاحقة من حياته، بدأ بتدريس الموسيقى في مدارس مختلفة في المنطقة، في إكسال وفي مدرسة نعمت في الناصرة، غارسًا حبّ الموسيقى في نفوس طلابه.
لم يواجه ديب صعوبات خاصة في بداية طريقه. يقول بتواضع: “الأبواب فُتحت أمامي بكل حبّ”. ويضيف: “منذ أواخر السبعينيات، كنت أقدّم عروضًا في المهرجانات والفعاليات، فواصلتُ ببساطة طريقي منذ حينها”. وكان روتين حياته قائمًا على الجمع بين تدريس الموسيقى في النهار والغناء في الليل.
انضم إلى فرق موسيقية عديدة، وأسّس لاحقًا فرقة موسيقية باسم “أصالة”، انطلاقًا من رغبته في الحفاظ على الموسيقى العربية الطربية. وإلى جانب التدريس والتسجيلات والعروض، يعمل ديب أيضًا في صنع الآلات الموسيقية وصيانتها، وخاصة آلة العود، التي يقول إنها “تتحدث بلغة الروح”.
بين الناصرة وحيفا – جذور وأجنحة
قبل عدة سنوات، انتقل يشارة ديب للعيش في حيفا. لم يكن هذا القرار سهلاً بالنسبة له. يروي قائلاً: “الانتقال جاء أساسًا بناءً على رغبة أولادي في تغيير الأجواء”. ويضيف: “لقد كانت أيضًا فرصة لفتح صفحة جديدة”. وبالفعل، افتتح في حيفا متجرًا فريدًا من نوعه لبيع وصيانة الآلات الموسيقية في حي وادي النسناس. وسرعان ما أصبح المكان مقصدًا للموسيقيين الهواة والمحترفين من مختلف الخلفيات الثقافية والشرائح.
وعلى الرغم من الإقامة في مدينة جديدة، لا ينسى ديب مسقط رأسه. يقول معتزًا: “حملتُ روح الناصرة معي في قلبي، وصداها يتردد في أغانِيَّ وألحاني وأجواء موسيقاي”، ويذكر بفخر الألبوم الذي أصدره تحت اسم “سهرة نصراوية”، والذي يتضمن أغاني مثل “يا ناصرة يا ناصرة“، التي أصبحت بمثابة الموسيقى التصويرية غير الرسمية لمدينة الناصرة.
يُعرَف بشارة ديب بين الفلسطينيين في الداخل كمغنّي أعراس، وهي الساحة الرئيسية للموسيقيين التي تسهم في دفع مسيرتهم وتطورها. يوضح قائلاً: “الأعراس هي مسرح المطربين العرب في البلاد. هناك يختبر المطرب نفسه، ولا يقتصر الأمر فقط على اختبار صوته، بل حضوره أيضًا، وإحساسه الفني، وقدرته على إسعاد الناس”.
على مر السنوات، لحّن ديب أكثر من 15 أغنية أصلية، بعضها أدّاها هو بنفسه، بينما غنّى بعضها الآخر فنانون آخرون، مثل كمال سليمان. وبالنسبة لبشارة ديب، الموسيقى ليست مجرد صوت جميل، بل هي وسيلة للتعبير عن الهوية والمشاعر، وجسر للتواصل الناس. يقول ديب: “أنا أؤمن بالأغنية الأصيلة التي تربط الجيل الشاب بتراثنا”.
الإرث مستمر
انتقل حب بشارة ديب للموسيقى إلى الجيل الجديد أيضًا. ابنه، فادي (32 عامًا)، حاصل على درجة الدكتوراه في الموسيقى ومتخصص في العزف على البيانو، ويعيش حاليًا في الولايات المتحدة. يقول ديب: “هذا هو فخري الأكبر، أنا فخور لأنني نجحت في غرس حبي للموسيقى في أولادي”.
في متجره في وادي النسناس، وبين آلات العود المعلقة على الحائط، وأجهزة تكبير الصوت اللامعة، والقصص التي تدور بين النغمات، يواصل بشارة الإبداع والتعليم والحلم، دون أن يأبه بالشهرة السريعة عبر الفيديو كليب أو برامج المواهب الموسيقية. يوضح قائلاً: “أؤمن بالإبداع الحقيقي الخالي من المنافسة. الفن ليس سباقًا، إنه رسالة”.

الروح الإنسانية خلف النغمات
عندما سألنا بشارة ديب عن معنى المحبة والأمل السعادة لديه، أجاب ببساطة آسرة: “المحبة دواء الحياة، والأمل هو الهواء الذي نتنفسه، والسعادة شعور يُعرّفه كل شخص بطريقته الخاصة”.
بشارة ديب ليس مجرد موسيقي؛ إنه إنسانٌ يمتلك قيمًا أخلاقية وثقافة غنية ويُقدِّمُ عطاءً مجتمعيًا. لقد نجح في الجمع بين الصوت واللحن والتعليم والتراث، ليصبح بذلك قدوة، ليس فقط كفنان، بل أيضًا كمعلّم وأب وحِرَفي. يقول مبتسمًا: “إذا أُغلق في وجهك أحد الأبواب، فافتح نافذة في الجدار”، ويضيف: “عندما تغني، فأنت تفتح نافذة لأرواح الآخرين”.
تثبت قصة بشارة ديب أن الموسيقى ليست مجرد مهنة، بل هي أسلوب حياة. من شاب صغير يتجوّل في أزقة الناصرة، مرورًا بعقود طويلة من التعليم والتربية الموسيقية، وصولًا إلى تأسيس مركز موسيقي في حيفا أصبح بيتًا لعشّاق الموسيقى، يثبت ديب أن الفن الحقيقي لا يسعى وراء الشهرة الرخيصة أو النجاح السريع.
يقول بشارة ديب: “الحياة رحلة طويلة، وكلما كنتَ قادرًا على أن تُقدِّمَ أشياء جيدة وإيجابية في مجالك، كنت أكثر سعادة ونجاحًا”. وفي سن الـ66، بينما يخفف العديد من الأشخاص إيقاع حياتهم، يواصل ديب الإنتاج والتعليم والتأثير. إنه دليل على إمكانية فتح صفحة جديدة في الحياة في أيّ وقت، وأن الفن الحقيقي ينتقل من جيل إلى جيل، من الناصرة إلى حيفا، ومن قلب إلى قلب.











