/
/
طمرة: “أريد فقط أن أعود إلى بيتي المدمّر. أن يزيلوا الأنقاض، أن يبدأوا إعادة البناء. لا أطلب أكثر من ذلك”

طمرة: “أريد فقط أن أعود إلى بيتي المدمّر. أن يزيلوا الأنقاض، أن يبدأوا إعادة البناء. لا أطلب أكثر من ذلك”

أيقون موقع وصلة Wasla
wasla brands

كما تصف العروس فستان زفافها، تصف سعاد منزلها الذي بُني بعرق الجبين، على قطعة أرض اشتُرِيَت بتحويشة العمر. كان منزلها يعجّ بالزهور والألوان وعبق الحياة. سعاد، وهي امرأة رياضية وحيوية، ومدربة لياقة بدنية معروفة في بلدتها، وزوجها، وهو لاعب كرة قدم سابق ومدرب محبوب، بنيا معًا المنزل كـمَعبد للحب والاستقرار يضفي المعنى على حياتهما، ليشبه عشًّا يأوي إليه أفراد العائلة. لقد حلما وخططا واستثمرا لسنوات كل شيكل جمعاه في البيت. وشكّل كلّ حجر في بيتهما، وكل سياج غُطي بالزهور، شاهدًا على رحلة شخصية من النجاح والمثابرة.

“كان هذا بيتي،” تقول، “ولكنه لم يكن مجرد منزل. بل كان جزءًا مني. وكل ما بنيناه معًا أنا وزوجي”.

ثم، في لحظة واحدة، انهار كل شيء.

blobid1758449185704
سعاد التي تدمّر بيتها بعد أن سقط صاروح على منزل جيرانها “كان البيت جزءًا مني”

ما بدا في الصباح يومًا عاديًا، لم يعد كذلك في المساء. غيّر صاروخ سقط خلال الحرب بين إسرائيل وإيران وجه طمرة في لحظة واحدة. الصاروخ الثقيل سقط على بيت الجيران، عائلة خطيب، لكن الدمار لم يتوقف هناك. حيّ كامل اهتز، جدران انهارت، أربع نساء، جارات سعاد منذ سنوات طويلة، لقين حتفهن تحت الركام. وتحولت بيوت أخرى إلى أنقاض، من بينها بيت سعاد.

“كنت أنا وزوجي في البيت، سمعنا صفارات الإنذار، فهرعنا، مثل الجميع، إلى الملجأ في الطابق الأرضي. عندما كنا بالملجأ، سمعنا فجأة دويًا قويًا… صوت الانفجار الذي غيّر حياتنا. لكننا لم نفهم حقًا ما الذي حدث فعلًا إلا بعد بضع دقائق. بقينا دقائق في الملجأ ثم خرجنا… كان الغبار يغمر المكان، وكل شيء كان مدمّرًا… نظر إليّ زوجي وقال لي: ‘انظري إلى سياراتنا، تدمّر كلّ شيء’. أدركنا أن شيئًا خطيرًا قد حدث، لكننا لم نتمكن من فهم ما حدث حقًا. انقطعت الكهرباء، وكان الظلام دامسًا، وكنت أحاول أن أضيء المكان بالهاتف لأستوعب ما جرى. بدأ الجيران يصرخون وينادوننا، ودخل الناس من النوافذ لإنقاذنا. كنت في حالة ذهول، لا أفهم ما حدث هنا، حتى أدركنا أن الصاروخ سقط بشكل مباشر على منزل جيراننا المجاور، ولذلك تضرر منزلنا بشدة”.

blobid1758207288982
الدمار في الحي الناجم عن الصاروخ

تجربة الاقتلاع الداخلي

ليس فقدان البيت مجرد خسارة في الممتلكات أو الجدران. فبالنسبة لسعاد، كانت هذه تجربة اقتلاع داخلي. تقول: “لا يمكن شرح ذلك، إنه ليس ألمًا يزول. إنه جرحٌ داخليّ انفتح، جرحٌ تعيش معه. لم يكن مجرد بيت، بل كان أشبه بمملكةٍ لي، حيث كنت أجلس كل يوم مع زوجي في الشرفة ونشرب القهوة. هنا كانت حديقتي، حيث كنتُ أستقبل ضيوفًا كلّ يوم يثنون على جمال البيت. في الحديقة زرعت أشجارًا وزهورًا من كل الأنواع. لم يسرق الصاروخ بيتي فقط، بل سرق حياتي، وصباحاتي الهادئة عندما أكون وحدي في البيت، سرقوا ذكرياتي. وبالكاد بقي شيء من البيت”.

“أتذكر عندما جاء الناس لمساعدتي في تنظيف المنزل، كنت أبحث عن ألبوم صور عائلتنا وألبوم الذكريات الخاص بزوجي الذي صنعته بنفسي. كان زوجي لاعب كرة قدم ولعب لسنوات عديدة، ولهذا جمعتُ في ألبوم صغير صورًا من محطات مسيرته الكروية. وفي هذا الألبوم الصغير الذي وجدته بين الأنقاض، انطوت كل حياتي وكل عالمي. وفي اللحظة التي عثرتُ عليه فيها بين الأنقاض، علمتُ أن حياتي ستُبعَثُ من جديد”.

منذ ذلك اليوم، لم تكن سعاد قادرة على تحمّل العودة  إلى البيت أو حتى الاقتراب منه. فمشهد الجدران المدمرة، والزهور المسحوقة والمدفونة في الغبار يثقل قلبها. تقول سعاد: “جسدي قوي لأنني أمارس الرياضة ويتحمّل الضربات، لكن لا يوجد أيّ تمرين يمكن أن يجهّزكِ للحظة التي ترين فيها حياتك كلها تنهار أمام عينيك”.

زوجها، الرجل الذي خبر جيدًا القتال في ملاعب كرة القدم، يعترف بأنه أيضًا لا يجد القوة للوقوف أمام المشهد. “نحن نُدرِّب اللاعبين ليمتلكوا الصلابة، ويكونوا أقوياء، وليقاتلوا من أجل الفوز، لكن أمام هذا المشهد، ليس بوسع الإنسان سوى أن يشعر بالعجز وبالوحدة”.

mceu 85844648921758207363617
حديقة مريم المزروعة بأصناف عديدة من الزهور والأشجار

حيّ فارغ، شارع ميت

لم يعد حي خلة الغزال في طمرة، الذي عاشا فيه سنوات طويلة، مكانًا يمكن تسميته بالبيت. فبعد أشهر من سقوط الصاروخ، لا تزال الشوارع تبدو كـساحة حب، حيث تقف المنازل المدمرة كـشهود صامتين على فشل المنظومة. عائلات كثيرة رحلت بانتظار الحصول على حلول وإعادة إعمار البيوت والأنفس، وأخرى بقيت في وضع مؤقت هش ومليء باللايقين.. تؤكد سعاد: “الأمر لا يتعلق بمنزلي فحسب، بل بالحي بأكمله. كان شارعنا مليئًا بأصوات لعب الأطفال، ورائحة الطبخ، وأصوات الجيران. اليوم هو فارغ وميت، وهذا وضع مخيف أكثر من الانفجار ذاته”.

بالإضافة إلى الخسارة الشخصية، هناك ألم عميق ناجمٌ عن السياسات الحكومية. فمنذ اللحظة الأولى، وصل ممثلون رسميون عن الحكومة، صوّروا ووعدوا بالمساعدة. لكن الأشهر مرت، وإعادة البناء لم تبدأ. الوعود بتوفير سكن مؤقت، ومنح لإعادة البناء، وخطط لسكنٍ بديل، كلها بقيت حبراً على ورق.

عائلة سعاد ليست وحدها في هذه الأزمة. تم تقديم ما يقرب من أربعين ألف مطالبة بالتعويض عن الأضرار المباشرة إلى ضريبة الأملاك منذ بداية الحرب مع إيران، وتظهر البيانات الحكومية أن حجم الضرر يتجاوز خمسة مليارات شيكل. كل هذا في الوقت الذي لا تزال فيه ملفات مفتوحة لدى ضريبة الأملاك لمتضرري الحرب في الشمال والجنوب، بالإضافة إلى متضررين آخرين لم يقدموا مطالبات بعد. يشتكي العديد من المتضررين من بيروقراطية معقدة وبطيئة تسببت في عدم حصول الكثير منهم على تعويضات حتى الآن، وبدأ بعضهم في الترميم بأنفسهم، دون مساعدة. لكن سعاد ليس لديها خيار المضي قدمًا في إعادة إعمار منزلها. وتؤخر البيروقراطية المتعلقة بعمليات الهدم إعادة بناء منزلها وتتركها معلقة بين السماء والأرض، دون استجابة. وهي تعيش اليوم في منزل مؤقت بالمدينة وتنتظر العودة إلى المنزل وبناء الحلم من جديد.

الدولة تخلّت عنهم، بينما وقف معهم مجتمعهم

تسترسل قائلة: “لكن ما لن أنساه أبدًا هو الدعم الذي حظينا به من المجتمع العربي. الناس لا يتركوننا لحظة، يأتون إلينا بالهدايا، يعرضون المساعدة المالية، يعانقوننا ويقبلوننا، ويتأكدون أننا بخير. أول من جاء لمساعدتنا كان شابًا من الحي لم يكف عن الاتصال بنا والتأكد من أننا على قيد الحياة. لقد علمتنا هذه الحرب مدى أهمية الدعم الاجتماعي الذي تلقيناه وصلابتنا.”

في المقابل، يسود الشعور بالخذلان على ما تشعر به تجاه الدولة. ففي اللحظة الحاسمة، عندما كان مطلوبًا من الدولة أن تقف إلى جانب مواطنيها، اختارت أن تغض الطرف. البيروقراطية تتغول، والتصاريح تتأخر، والألم اليومي يتفاقم.

قصة سعاد ليست استثناءً. إنها تعكس واقعًا أوسع لمئات العائلات في جميع أنحاء البلاد التي دُمّرت حياتها تحت نيران الحروب الأخيرة، لكن إعادة إعمار حياتها ومنازلها لا يزال حلمًا بعيد المنال. لقد أصبحت حالة طمرة، حيث فقدت أربع نساء حياتهن وانهارت منازل بأكملها، رمزًا للإهمال المؤسسي، والعجز، وانعدام الجاهزية للتعامل مع الواقع.

من بين العوامل التي تعيق عمليات البناء وإعادة الإعمار يمكن ذكر النقص الهائل في القوى العاملة بقطاع البناء. حتى عام 2023، كان قطاع البناء يعتمد بشكل كبير على العمال الفلسطينيين من الضفة الغربية، حيث كان أكثر من 150 ألف عامل منهم يعملون في القطاع حتى بداية الهجوم على غزة. هذا العام، لم يدخل سوى حوالي 14 ألف عامل فقط. بالإضافة إلى ذلك، ارتفع سعر مواد البناء بشكل كبير، ويتم تحويل أموال طائلة إلى الأجهزة الأمنية، أي أن الأموال تُنفق على الحروب وليس على إعادة الإعمار. وبينما تتحدث القيادات على المستوى الوطني عن “الردع” و”الاستراتيجية” و”النصر”، يبقى الناس بلا مأوى وبلا أفق واضح.

blobid1758207416381
الدمار في الحي

“أبكي كل يوم في داخلي”

تطالب سعاد بشيء بسيط، ما تطلبه أي امرأة في وضعها: العودة إلى المنزل. ليس إلى منزل فاخر، ولا إلى فيلا جديدة، بل إلى منزلها، الذي بنته بعرق جبينها، والذي دُفن تحت الأنقاض. تقول بصوت مكسور: “لا أريد هدايا، أريد فقط أن يسمحوا لي بالعودة إلى ما كان ملكي. أن يزيلوا الأنقاض، أن يبدأوا عملية إعادة البناء. لا أطلب أكثر من ذلك”.

إنها تدرك أن المنزل لن يعود تمامًا كما كان، لكن العودة إليه بالنسبة لها ستكون عودة إلى الحياة نفسها. تقول: “لا أعرف كيف سيبدو المنزل الجديد ولا أعتقد أنه سيكون تمامًا كما كان، كل ما أعرفه هو أنني أريد العودة إلى المنزل، هذا كل شيء”.

اليوم، تعيش سعاد وزوجها في منزل مؤقت، لكن حياتهما ليست حياة. متعلقاتهما الشخصية، ذكريات حياتهما، ألبومات الصور، كلها بقيت تحت الأنقاض. تواصل التدريب، وتستمر في الابتسام لتلميذاتها، لكنها تعترف بأنها مُحطَّمة من الداخل. “أظهر القوة، لأنني مدربة، ولأن الناس ينظرون إليّ. لكن في الداخل، أبكي كل يوم”.

قصة سعاد ليست مجرد قصة شخصية، إنها لائحة اتهام ضد السلطات التي فشلت في تقديم استجابة سريعة، وضد نظام يتخلى عن مواطنيه في لحظات الأزمة. في دولة تدّعي أنها توفر الأمن لمواطنيها، فإن الحد الأدنى المطلوب هو توفير مأوى وموارد لإعادة تأهيل ضحايا الحرب. ما دامت هذه الأمور لا تحدث، فإن الفجوة بين التصريحات والواقع ستظل هاوية تلتهم ثقة الجمهور.

لن تنسى سعاد ذلك المنزل. تتحدث عنه وكأنه لا يزال قائمًا بكامل جماله، وكأن الزهور لا تزال تتفتح في الفناء. هذه هي الذاكرة التي تبقيها صامدة، وهي أيضًا الألم الذي يمزقها إربًا. تهمس قائلة: “أعلم أنني سأعود، لكن السؤال هو متى؟ كم من الوقت سأضطر للانتظار، وكم من الألم سنعاني حتى ذلك الحين؟”

المقال منشور في وصلة بإذن خاص من موقع صبرا 

مقالات مختارة