
تدخل إسرائيل مرحلة جديدة من عدم اليقين الاقتصادي مع التحضيرات لعملية عسكرية واسعة في مدينة غزة، في ظل غياب تقديرات واضحة للتكلفة النهائية. فبحسب ما يتضح من نقاشات داخلية، تعمل المؤسسة العسكرية حاليًا دون إطار ميزاني محدد، وإنما وفق “سيناريوهات قتال متغيرة”، ما يجعل الحكومة أشبه بمن يسير خطوات عشوائية في الظلام من دون تخطيط مسبق أو حساب للأثمان الاقتصادية، بحسب موقع داماركر.
الجيش وسّع في الأيام الأخيرة تجنيد قوات الاحتياط بشكل ملحوظ استعدادًا لعملية أطلق عليها اسم “عربات جدعون ب”. وهي خطوة أثارت معارضة حتى داخل المؤسسة العسكرية، بسبب المخاوف من المسّ بالرهائن. وتشير التقديرات إلى أن عشرات آلاف الجنود الإضافيين جرى استدعاؤهم، علمًا بأن حجم الاحتياط المعتاد يبلغ نحو 50 ألفًا. ويكلف تشغيل 60 ألف جندي احتياط لشهر واحد حوالي ملياري شيكل، تُضاف مباشرة إلى النفقات الأمنية الجارية.
وبحسب داماركر، فإن هذا الوضع يتناقض جذريًا مع الخطة الاقتصادية متوسطة المدى التي نشرتها وزارة المالية قبل نحو ثلاثة أشهر فقط، والتي افترضت أن ذروة استدعاء الاحتياط ستنتهي مع الربع الثاني من 2025، وأن عدد المجندين سينخفض تدريجيًا في الربع الثالث. لكن الواقع الحالي يسير في الاتجاه العكسي تمامًا، إذ يتوسع نطاق التجنيد بدلًا من تقليصه.
في أروقة الحكومة تسود حالة من الغموض، إذ يصرّ الكابنيت على عملية طويلة الأمد تهدف إلى “احتلال غزة”، بينما يعتقد خبراء اقتصاديون أن العملية ستكون أصغر بكثير مما يُطرح، وبالتالي أقل تكلفة. رغم ذلك، تتداول أوساط سياسية وإعلامية تقديرات تتحدث عن تكلفة قد تصل إلى 20 مليار شيكل. مسؤولون مهنيون رفضوا، بحسب داماركر، تثبيت هذا الرقم مؤكدين أن لا أحد يعرف بعد حجم العملية الحقيقي، لكن إذا صحّت هذه الفرضية، فإن عجز الموازنة سيرتفع إلى حوالي 6.2% من الناتج المحلي في 2025، أي قريب من مستوى العجز الكبير في 2024 الذي بلغ 6.8%.
نفقات عسكرية قياسية
المعضلة تزداد تعقيدًا إذا أخذنا بالحسبان أن الحكومة وافقت قبل أسبوعين فقط على تعديل الموازنة وزيادة الإنفاق بـ 30 مليار شيكل، معظمها لتعزيز ميزانية الجيش وتسديد فوائد الدين السابقة. القرار رفع بالفعل هدف العجز إلى 5.2%، أي قبل احتساب تكاليف العملية الجديدة. وإذا أضيفت 20 مليار شيكل أخرى، فإن ميزانية الأمن ستقفز إلى نحو 162 مليار شيكل، وهو رقم يقترب من ميزانية 2024 التي وصلت إلى 168 مليار شيكل. عندها ستظل إسرائيل واحدة من الدول ذات النفقات عسكرية الأعلى قياسًا بالناتج، بنسبة تصل إلى 7.6%.
تمويل هذه النفقات لن يكون عبر تقليص بنود أخرى، إذ يدرك المسؤولون أن خفضًا بمثل هذه الأحجام غير واقعي، ولا من خلال رفع الضرائب الذي قد يضر بالاقتصاد. الطريق الوحيد بحسب داماركر سيكون عبر زيادة الاقتراض، أي إصدار سندات دين إضافية، ما يعني ارتفاعًا مباشرًا في كلفة الفوائد. ففي موازنة 2025 الأصلية خُصص 56.2 مليار شيكل لتسديد الفوائد، بزيادة 25% عن 2022. كما تمت إضافة 1.7 مليار شيكل أخرى عند فتح الموازنة قبل أسبوعين. وإذا تم تمويل 20 مليار شيكل إضافية بالاقتراض، فإن عبء الفوائد سيرتفع بحوالي مليار شيكل سنويًا، ما سيؤثر على المدى الطويل في تركيبة الموازنة.

الانعكاسات الاقتصادية تتجاوز الأرقام. غياب عشرات آلاف الجنود من سوق العمل، خصوصًا من قطاعات عالية الإنتاجية مثل الهايتك، سيضغط على النمو الاقتصادي الذي يعاني أصلًا من الانكماش. إذ أظهرت بيانات رسمية أن الاقتصاد تقلص في الربع الثاني من 2025 بنسبة سنوية 3.5%. محللون في القطاع الخاص خفّضوا بالفعل توقعاتهم لنمو العام الحالي إلى 2% فقط، بعد أن كانت التقديرات تراهن على تعافٍ سريع في الربع الثالث. ومع توسيع الحرب، قد تتبخر هذه الآمال.
كما أن غياب هذه الأيدي العاملة يزيد من اختناق سوق العمل الذي يعاني أصلًا من نقص في المعروض، حيث معدل البطالة لا يزال حول 3% فقط. هذا النقص قد يترجم إلى ضغوط تضخمية إضافية وارتفاع في الأسعار. وإذا بقي التضخم قريبًا من الحد الأعلى لمستوى الهدف الذي حدده بنك إسرائيل (بين 1% و3%)، فإن البنك المركزي قد يضطر لتأجيل خفض أسعار الفائدة مرة أخرى.
الخلاصة أن إسرائيل تقف أمام معادلة شديدة الصعوبة: عملية عسكرية غامضة التكلفة وغير محسوبة العواقب، مقابل واقع اقتصادي مثقل بالديون والعجز والتضخم. وفي ظل غياب خطة واضحة، يبدو أن الحكومة تواصل السير في طريق محفوف بالمخاطر، حيث لا أحد يعرف حتى الآن ما إذا كان الثمن الاقتصادي سيكون مؤقتًا أم بداية لمرحلة طويلة من الأعباء المالية الثقيلة.
مقالات ذات صلة: اقتصاد البقاء: غياب مصادر الدخل يدفع الغزيين لبيع المساعدات التي خاطروا بحياتهم للحصول عليها











