
كشفت تحقيقات دولية عن واحدة من أوسع وأخطر الهجمات الإلكترونية التي شهدها العالم حتى اليوم، نفذها تنظيم صيني يحمل اسم “سولت تايفون”. ووفقًا لما أورده خبراء ومسؤولون حكوميون، فإن العملية استمرت سنوات واستهدفت أكثر من ثمانين دولة، وسط تقديرات بأنها طالت كل مواطن أمريكي تقريبًا، حتّى أبرز المسؤولين الحكوميين، من خلال سرقة بيانات شخصية وحساسة للغاية.
الهجوم الذي اعتُبر “هجومًا جامحًا منقطع النظير” بحسب وصف مسؤولين في الولايات المتحدة وبريطانيا، تركز على شبكات شركات الكهرباء والاتصالات إلى جانب مؤسسات اقتصادية وحكومية في أمريكا، بهدف الحصول على معلومات سرية وملفات تكنولوجية، من بينها تصاميم متقدمة لتقنيات الشرائح الإلكترونية. هذا الاختراق منح الصين، وفق الخبراء، أفضلية استراتيجية في سباقها التكنولوجي والعسكري مع واشنطن.
تحقيق مشترك استمر عامًا كاملًا أوضح أن “سولت تايفون” تغلغل في شبكات كبرى شركات الاتصالات وشركات اقتصادية أخرى في العالم، حيث تجاوزت أبعاد الهجوم كل التقديرات السابقة. وقد حذّر مختصون من أن البيانات المسروقة قد تتيح لأجهزة الاستخبارات الصينية تتبع سياسيين وعملاء استخبارات ونشطاء في مختلف أنحاء العالم.
البيان الصادر عن جهات التحقيق في الولايات المتحدة وحلفائها ذكر أن القراصنة الممولين من الحكومة الصينية استهدفوا شبكات في قطاعات متعددة، من بينها شركات الاتصالات والحكومات والنقل والفنادق وحتى البنى التحتية العسكرية. وأعلنت دول مثل كندا وفنلندا وألمانيا وإيطاليا واليابان وإسبانيا انضمامها إلى البيان إلى جانب الولايات المتحدة وبريطانيا، في خطوة هدفها إدانة الصين علنًا وتعريضها للإحراج الدولي.
سينثيا كايزر، المسؤولة السابقة في وحدة الأمن السيبراني بمكتب التحقيقات الفيدرالي، قالت لصحيفة نيويورك تايمز إنها تتوقع أن العملية لم تستثنِ أحدًا من الأمريكيين، نظرًا لاتساع نطاقها الهائل. ورغم أن بعض الخبراء يرون أن جمع البيانات عن المواطنين العاديين قد يكون عرضيًا، فإن حجم العملية يشير إلى مستوى غير مسبوق من الطموح والتخطيط.
مرحلة جديدة من قدرات الصين
خبراء الأمن السيبراني وصفوا الهجوم بأنه بداية مرحلة جديدة من قدرات الصين في عالم التجسس الرقمي، حيث لم تعد الهجمات تستهدف فقط أسرارًا تجارية أو بيانات حكومية محدودة، بل باتت عمليات طويلة الأمد مدعومة حكوميًا، تتسم بالصبر والدهاء والقدرة على التغلغل العميق في البنى التحتية الحيوية لأكثر من ثمانين دولة. جنيفر يوبانك، النائبة السابقة لرئيس وكالة الاستخبارات المركزية للشؤون الرقمية، اعتبرت أن “سولت تايفون” يمثل فصلًا جديدًا كليًا في سلوك الصين، بعدما انتقلت من سرقات بسيطة قبل عقد من الزمن إلى حملات متطورة وطويلة الأمد ذات أهداف استراتيجية واضحة.
التحقيقات ربطت بين العملية وثلاث شركات تكنولوجية صينية نشطت منذ عام 2019، لكنها لم تُكشف إلا العام الماضي. ووفق البيان، فإن هذه الشركات عملت لصالح الجيش الصيني وأجهزة الاستخبارات المدنية خارج البلاد، ما يعزز فرضية أن العملية كانت جزءًا من مشروع استراتيجي واسع النطاق.

الهدف المباشر، كما ورد في تقرير التحقيق، كان تزويد بكين بالقدرة على التعرف على الاتصالات وتعقب تحركات الشخصيات المستهدفة في مختلف أنحاء العالم. وقد شملت عمليات الاختراق التنصت على مكالمات وقراءة رسائل لسياسيين أمريكيين بارزين، بينهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونائبه جاي دي فانس خلال حملتهما الانتخابية، إضافة إلى قيادات من الحزب الديمقراطي مثل السيناتور مارك وورنر من فيرجينيا، الذي يُعد أبرز أعضاء لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ.
الهجوم لم يكن معزولًا عن محاولات سابقة، إذ سبقه اختراقات صينية كبرى استهدفت شركة “ماريوت” الفندقية، وشركات تأمين أمريكية، وكذلك مكتب شؤون الموظفين الفيدرالي الذي يحتفظ ببيانات حساسة عن التصنيفات الأمنية. وفي عام 2021، اتهمت إدارة بايدن رسميًا الصين بالمسؤولية عن اختراق أنظمة البريد الإلكتروني الخاصة بشركة مايكروسوفت.
غير أن “سولت تايفون”، وفق وصف آن نويبرغر، المسؤولة السابقة عن الأمن السيبراني في إدارة بايدن، يمثل أكثر من مجرد عملية تجسس ناجحة. ففي مقالة نشرتها بمجلة “فورين أفيرز”، كتبت أن هذه العملية تكشف واقعًا أعمق وأكثر إزعاجًا، يتمثل في استعداد الصين للهيمنة على ساحة الصراع الرقمي في المستقبل.
المشهد الذي رسمه الخبراء والمسؤولون يكشف أن بكين لم تعد تكتفي بجمع معلومات لتوظيفها في معارك محدودة، بل تستعد لبسط نفوذها عالميًا عبر فضاء الإنترنت، وهو ما يجعل “سولت تايفون” ليس مجرد هجوم سيبراني، بل مؤشرًا على مرحلة جديدة ستضع الخصوم الاستراتيجيين للصين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، أمام تحديات غير مسبوقة.
مقالات ذات صلة: المنافسة على أوجهها في عالم الذكاء الاصطناعي: Gemini يضيق الفارق مع ChatGPT… والصينيون يدخلون السباق











