
واجهت إحدى الجهات التي تعمل في قطاع غزة، في إطار برامج المساعدات التابعة للمنظمات الدولية المختلفة الناشطة في الميدان، خلال الأشهر الأخيرة مشكلة معقدة. فقد أراد المسؤولون هناك إخلاء جزء من النفايات في المنطقة التي ينشطون فيها من أجل تمكين برنامج المساعدة الذي يشرفون عليه من العمل بشكل أفضل.
لكن ما قد يبدو مهمة بسيطة في إسرائيل، يتحول في غزة إلى مهمة معقدة للغاية، إذ لم تعد خدمات الصرف الصحي تعمل منذ وقت طويل. وفي وقت يكافح فيه السكان من أجل الحصول على الغذاء، وتتحول مدن بأكملها إلى مكبات للنفايات، فإن السؤال عن موعد وصول شاحنة القمامة يبدو وكأنه نكتة حزينة.
ومع ذلك، فإن تشغيل مراكز توزيع الطعام والمستشفيات والمؤسسات الاجتماعية يتطلب التخلص من النفايات المتراكمة داخلها وحولها. والحل المؤقت في مثل هذه الحالات هو البحث عن سكان من غزة يقبلون بنقل النفايات — يدويًا، أو باستخدام عربات أو شاحنات صغيرة — مقابل أجر مالي. والأيدي العاملة متوفرة بكثرة في القطاع، حيث معظم أماكن العمل معطلة.

غير أنّ هذا الجهة العاملة في المساعدات واجهت مشكلة إضافية، كيف ستدفع لسكان غزة الذين سيعملون لديها. وفي حين لا يزال بعض المواطنين في غزة يمتلكون حسابات في البنوك الفلسطينية، يمكن الوصول إليها عبر الهاتف الذكي، إلا أن هذا الحال لا ينطبق على الجميع. لذلك، يبقى النقد (الكاش) هو الأساس في المعاملات اليومية. إلا أن استخدام النقد يحمل مخاطر كبيرة، كما أن المؤسسات لا تعرف كيف تتعامل مع كميات كبيرة من الأموال النقدية.
وقد تبيّن لهذه الجهة أن السكان المحليين اشترطوا من أجل الموافقة على تلقي أموال عبر التطبيقات الرقمية أن يحصلوا على مبلغ أعلى. فعلى سبيل المثال، تعادل 150 شيكل تُدفع رقميًا في قيمتها الفعلية 100 شيكل نقدًا. وهذه مجرد عينة من حجم الانهيار الاقتصادي في القطاع هذه الأيام، ومن حقيقة أن أي نشاط فيه يكشف مشكلات لا يعرفها من اعتاد العمل في دولة تسير فيها الأوضاع بشكل طبيعي.
عندما تتعامل وزارة المالية مع تخصيص الأموال للمساعدات الإنسانية، فهي لا تتطرق إلى هذه القضايا، ولا إلى تكاليف جمع القمامة أو تشغيل المستشفيات. فقد أُعيد اقتصاد غزة إلى ما يشبه “العصر الحجري”، وحتى الأشهر الأخيرة لم تكن إسرائيل تخطط للانخراط في هذه المشكلة. وهذا وضع شائع في الحروب، إذ لا يخطر ببال أحد أن روسيا ستبدأ بالاهتمام بالمساعدات الإنسانية لأوكرانيا. لكن في الأشهر الأخيرة، تصرّ حكومة إسرائيل على تحويل غزة إلى مشكلتها هي، كجزء من سياستها الرامية إلى السيطرة على كامل القطاع.
خامس خرق للميزانية منذ اندلاع العرب
أُقرّ يوم الثلاثاء تخصيص مبلغ 1.6 مليار شيكل كمساعدات إنسانية لسكان غزة عبر الشركة الأميركية (مؤسسة غزة الإنسانية) GHF، وذلك في إطار إضافة 29.8 مليار شيكل إلى الميزانية العسكرية. يأتي هذا المبلغ بعد مصادقة سابقة في يونيو على 700 مليون شيكل للغرض نفسه، رغم أن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش خدعا الجمهور آنذاك بشأن الهدف الحقيقي له.
هذه الخطوة أثارت عاصفة سياسية ومعارضة حتى من داخل الائتلاف، حيث يجد أعضاء الكنيست فيه صعوبة في استيعاب كيف تتحول حكومة “النصر الكامل” إلى “المانح السخي” لسكان غزة. وفي هذا الصدد، تمّ فتح ميزانية الدولة لعام 2025، بعد نحو خمسة أشهر فقط من إقرارها في الكنيست، وهذه هي خامس مرة يحدث فيها ذلك منذ اندلاع الحرب. الأمر يعكس مشكلة خطيرة في إدارة الاقتصاد الإسرائيلي من قبل الحكومة الحالية.

كيف تم اتخاذ القرار بشأن تخصيص 1.6 مليار شيكل؟ هل يعتبر هذا المبلغ جزءًا من مبلغ 3 مليار شيكل الذي اعترف سموتريتش مؤخرًا بأنه ينوي تحويلها للمساعدات الإنسانية؟ ما هو الأساس الذي بُني عليه هذا المبلغ؟ وما هي التكلفة الشهرية؟ على كل هذه الأسئلة لم يقدم سموتريتش ولا وزارة المالية أي إجابة. في وزارة المالية ادعوا أن التفاصيل الكاملة سرية، وهو ما اعتُبر حلاً سحريًا غير مبرر يهدف للتهرب من الرقابة العامة.
يبدو أن حكومة نتنياهو تنظر إلى قرار التحويل كحل مؤقت، لكن التمويل الرسمي من الحكومة الإسرائيلية للمساعدات الإنسانية لغزة يقيّد إسرائيل بالتزامات طويلة الأمد تجاه تمويل سكان القطاع. سيكون من شبه المستحيل وقف هذا التمويل مستقبلًا. هذا الارتباط بين إسرائيل والمساعدات الإنسانية لغزة قد يُجبر الحكومات المقبلة على تخصيص مليارات الشواكل للمساعدات الإنسانية كل عام، وربما يفرض على الحكومة الإسرائيلية التزامات مدنية إضافية.
في وزارة المالية خُصص مبلغ 1.6 مليار شيكل لضمان استمرار عمل الشركة الأميركية GHF ومنحها الأولوية في توزيع المساعدات بدلًا من منظمات الإغاثة الدولية. وكما أوضح أحد العاملين في التجارة مع القطاع: “هذا المال مخصص لإقامة وتشغيل 12 مركزًا ستبنيها GHF، لأننا في إسرائيل لن نتنازل عن ذلك. نية الحكومة هي تقليص نشاط المنظمات الدولية، الأمر الذي سيؤدي إلى مزيد من الفوضى في توزيع الغذاء، من دون أن يؤخذ بالحسبان من أين ستحصل GHF على التمويل في المدى الطويل. فجميع منظمات الأمم المتحدة تحصل على تبرعات بشكل منظم، وهو ما لا تحظى به GHF”.
تكلفة تتراوح بين 7–10 مليارات شيكل سنويًا
لفهم حجم التكاليف التي تندرج تحت الاحتياجات الإنسانية في قطاع غزة، يجب النظر إلى الأموال التي ضختها منظمات الإغاثة الكبرى في القطاع خلال فترة الحرب، مثل برنامج الأغذية العالمي WFP، ومنظمة المطبخ المركزي العالمي WCK، واللجنة الدولية للصليب الأحمر.
برنامج الغذاء العالمي WFP (التابع للأمم المتحدة) أعلن مطلع هذا العام أنه سيحتاج إلى تمويل بقيمة 265 مليون دولار لتغطية نشاطه في غزة خلال الفترة من مارس حتى أغسطس 2025. أما منظمة WCK فقد أفادت بأنها وزعت خلال الأشهر الثمانية عشر الأولى من الحرب 130 مليون وجبة و26 مليون رغيف خبز، بتكلفة وصلت إلى نحو 200 مليون دولار. ومن التقارير المالية للصليب الأحمر يتضح أنه أنفق في عام 2024 حوالي نصف مليار شيكل في غزة والضفة الغربية وإسرائيل، ووجّه القسم الأكبر من هذا المبلغ إلى غزة.

ChatGPT said:
التخصيص الإسرائيلي للأموال يستند أيضًا إلى فرضية أساسية مفادها بأنّ منظمة GHF لن تتمكن من إطعام جميع سكان غزة أو تلبية احتياجاتهم، وأنّ منظمات الإغاثة الدولية ستواصل تحمّل المسؤولية عما يجري في القطاع. غير أنّ أحداث الأشهر الأخيرة، التي رفضت فيها هذه المنظمات التعاون مع GHF بدعوى أنّ أسلوب عملها يتعارض مع نهجها، أثبتت أنّ هذا الأمر غير مضمون. وقد تجد إسرائيل نفسها في مواجهة عبء طويل الأمد، تتحمل فيه مسؤولية مليوني فلسطيني في غزة غير قادرين على إعالة أنفسهم.
وقال الدكتور ساسون حداد، المستشار الاقتصادي السابق لرئيس الأركان ورئيس قسم الميزانيات السابق في وزارة الدفاع، والذي يشغل اليوم منصب مستشار أول في معهد Mind Israel: “هذه الخطوة قد تورّط إسرائيل. فعندما تتخذ مثل هذا القرار، فأنت تفرض وقائع على الأرض، والعالم يدرك أنّه ما دمت موّلت المساعدات فلا يوجد سبب لتتوقف. الشروع في تقديم المساعدات يعني أن عليك تحمّل المسؤولية الكاملة عن سكان غزة. وهذه مجرد البداية، ماذا سيحدث مع النفقات المدنية الإضافية؟ وماذا عن إعادة الإعمار؟”
وبحسب حداد، كان من الممكن في ظروف معينة تقديم مساعدات محدودة وبالتنسيق مع دول أخرى تموّل الإغاثة. لكنه أضاف أنّ تولّي الحكومة اليوم نفقات بهذا الحجم قد ينقلب عليها في المستقبل.

ويضيف حداد: “المساعدات الإنسانية هي واحدة من ثلاثة أمور قد نضطر نحن إلى إلى التعامل معها في غزة. الأمر الثاني هو إعادة الإعمار، والذي برأيي لا ينبغي لنا أن نتدخل فيه إطلاقًا، باستثناء الأمور الضرورية مثل الطرق. أما الأمر الثالث فهو النفقات المدنية. فعندما تسيطر على منطقة مأهولة بالسكان، فأنت ملزم بإدارة النفقات المدنية مثل أنظمة التعليم والصحة. هذه المبالغ قد تصل إلى ما بين 7 و10 مليارات شيكل سنويًا، وذلك بافتراض أنك تجبي ضرائب وجمارك من السكان هناك. وهذا قبل النفقات الأمنية التي تتراوح هي الأخرى حول 25 مليار شيكل سنويًا، حتى في مستوى متوسط من التصعيد”.
ويرى حداد أن احتمال أن يتمكن سكان غزة من تطوير اقتصاد مستقل في المستقبل القريب ضعيف جدًا. فبحسب قوله، حتى قبل الحرب لم تتجاوز حصة الفرد من الدخل 1,500 دولار في السنة، واليوم كثير من الناس في القطاع بلا عمل. وأضاف: “تكلفة المساعدات الإنسانية، وفقًا للتقارير، قد تصل إلى نحو ملياري دولار سنويًا. هذا مبلغ ضخم، ولا يمكن لإسرائيل أن تموله لفترة طويلة”.
فتح الموازنة الذي أقرته الحكومة يوم الثلاثاء هو مشكلة بحد ذاته، ويؤدي إلى تراجع ثقة الأسواق بحكومة إسرائيل. لكنه يعكس أيضًا مشكلة أعمق: فهذه الحكومة لا تملك استراتيجية سياسية، ولا أهدافًا أمنية واضحة لديها، وهي عاجزة عن الالتزام بالسيناريوهات الأساسية التي تعمل وفقها. وبهذا تواصل الفشل الذي بدأ مع مسؤوليتها عن أحداث السابع من أكتوبر.
لكن هذه المرة لا يقتصر الأمر على ذلك. فمن منظور بعيد المدى، فإن خرق موازنة عام 2025 — بعد خرق موازنة 2023 وثلاثة خروقات لموازنة 2024 — يمثل مشكلة أخطر بكثير، وقد يُنزل ضربة استراتيجية طويلة المدى بإسرائيل، سواء من الناحية الجيوسياسية أو من الناحية المالية، إذ إنه يقيّد إسرائيل بعبء اقتصادي مرتبط بالمساعدات الإنسانية. ولا أحد في الحكومة يتوقف لحظة ليسأل عن المخاطر الكامنة في الاقتراح الحالي لزيادة الميزانية العسكرية.











