“ليس هدفنا أن نحلّ مكان المعالج النفسي. هدفنا واضح وهو وضع قضية الصحة النفسية والحصانة المجتمعية على طاولة البحث والنقاش حتى يجد الأخصائيون والخبراء في هذا المجال الحلول. نحن في قدرة سنكون عنصرًا مساعدًا لهم لبناء شبكة توفّر الأدوات ووسائل المعرفة والمعلومات لمن يحتاجها من المعالجين والمتعالجين”

“لمّا وقع الصاروخ، شعرت بهبوطٍ في ضربات قلبي وإنه حرفيًا رح يوقف… هون في طمرة الآلاف بحاجة لعلاج نفسيّ، بس في نقصٌ كبيرٌ في الخدمات، وفترة انتظار طويلة، وهيك الوضع في كل البلدات العربية القريبة”.
هكذا أخبرت شابة من طمرة فريق شبكة قدرة الذي زار القرية، وشهادتها هذه تقّدم لمحة مختصرة عن الفجوات التي يعاني منها المجتمع العربي في الصحة النفسية، وهو ما استدعى أن تباشر “شبكة المتبرعين العرب- قدرة” إلى إطلاق مشروع فريد من نوعه لتعزيز الحصانة النفسية في المجتمع العربي، بصفتها منصة تُعنَى بالعطاء المنظّم (الفيلانتروبيا) من خلال الربط بين الأفراد المؤمنين بالمسؤولية الاجتماعية، وتوفّير البنية التحتية والمعرفة والموارد اللازمة للتعاون فيما بينهم وتعزيز أثر تبرعاتهم، للنهوض بقدرة المجتمع على تلبية احتياجاته الإنسانيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة بشكل مستدام.
عن الدوافع لإطلاق مشروعها الجديد يقول أحمد مهنا مدير عام شبكة “قدرة”: “في آخر 5 سنوات، كان موضوع الصحة النفسية يتصدر أولويات العمل المجتمعي بسبب الأزمات التي عصفت بالمجتمع مثل جائحة كورونا والحروب التي لا تتوقف. في هذا السياق بادر أعضاء قدرة بشكل مباشر إلى دعم مراكز للصحة النفسية، مثل مركز “معنى” وغيره من المراكز. ثمّ رأينا ضرورة توسيع إطار الدعم عبر إطلاق مشروع للصحة النفسية قائم على المسح والتشبيك بين الفاعلين في هذا المجال، وتطوير أدوات معرفية ومهنية، من أجل تقديم توصيات للمتبرعين من داخل شبكة قدرة وخارجها بهدف إحداث التغيير المنتظر في مجال الصحة النفسية بالمجتمع العربي“.

تشكّل قضية الصحة النفسية نتاجًا لتراكم الضغوط النفسية عبر السنوات، والتي غالبًا ما تمّ تجاهلها، ما أثّر بدوره على أجيال متعاقبة، ونلمح تأثيره في مجتمعنا في الوقت الحاضر، وسيمتدّ تأثيره للأجيال القادمة إذا لم تعالج هذه القضية. “هذه القضية ناجمة عن كلّ الضغوطات النفسية التي نعيشها على مدار السنوات، فمجتمعنا في وضع اجتماعي غير مستقر ويعيش أزمة نفسية متراكمة منذ عام 1948، وهي أزمة تمّ إهمالها رغم تأثيرها العابر للأجيال. وهدفنا توجيه العطاء المنظم في المجتمع العربي لدعم الحصانة النفسية، وإلا لن نستطيع حلّ العديد من المشكلات التي تعصف بمجتمعنا، مثل العنف والجريمة وتفكك الأسرة” يقول رجل الأعمال وليد عفيفي، أحد مؤسسي شبكة قدرة وعضو في إدارتها.
يتكون المشروع من ثلاثة مراحل: المسح والتقييم ويهدف لتشخيص واقع الخدمات النفسية وعوائقها، وخلوة تشبيكية (ريتريت) للتدريب وتبادل المعرفة بين الفاعلين في هذا المجال، ومؤتمر لعرض الحلول والتوصيات والرؤية المستقبلية.

مسح الوضع في الميدان
“أردنا في هذه المرحلة تشخيص المشكلة بوضوح، وذلك عبر مسح شاملٍ للخدمات النفسية المقدمة في المجتمع العربي، وعوائق تقديمها للمحتاجين إليها. قابلنا العشرات من العاملين في صناديق المرضى والمستشفيات ومنظمات الصحة النفسية، للإصغاء بشكل مباشر لما يقوله الفاعلين والخبراء من مختلف المجالات” تقول حنين عزام، مُركزة المشروع برفقة زميلتها الأخصائية النفسية جوانا عواد. “في كل مجال يتعلق بالصحة النفسية وجدنا أن الفجوات والنواقص كانت مقلقة جدًا. مثلًا، هناك أزمة في الكوادر المهنية، فقط 1.9% من مجمل الأطباء النفسيين في البلاد هم من العرب، ولا تزيد نسبتهم عن 2.5% في مختلف مهن الصحة النفسية. وهناك فجوة تزيد عن ثلاثة أضعاف في تلقي العلاج في عيادات الصحة النفسية الحكومية، حيث لا تتجاوز نسبة المتعالجين العرب 6.2%، مقابل نسبتهم البالغة 21% من السكان” تقول جوانا عواد.
يُترجم نقص الكوادر إلى فترة انتظار طويلة تشكل حاجزًا حقيقيًا أمام تلقي العلاج، التي قد تتراوح أحيانًا بين ستة أشهر وسنة كاملة، إضافة إلى نقص توفر المواعيد المناسبة للمرضى، حيث تُعقَد معظم الجلسات صباحًا، ما يصعّب على المتعالجين ترك عملهم أو مدارسهم.

يكشف التوزيع الجغرافي لخدمات الصحة النفسية في البلدات العربية عن فجوات إضافية. عدد البلدات العربية في البلاد 158 بلدة. فقط في 28 بلدة عربية توجد عيادة للصحة النفسية، أي أقل من 18%، معظمها متركزة في منطقة الشمال. هذا يعني أن معظم السكان العرب مضطرون للسفر لمسافات طويلة للحصول على العلاج النفسي. وعن هذه الحقيقة تقول حنين عزّام: “أعرف متعالجة كانت تحتاج إلى الذهاب إلى بلدة أخرى لتلقي العلاج، ولأنها لا تمتلك رخصة قيادة، ولا يوجد مواصلات ميسّرة لتصل إلى العيادة، فقد اضطرت إلى قطع العلاج”. وتُضيف: “البعد الجغرافي كشف عن فجوة خطيرة، خاصة في بلدات الحدود الشمالية أو النقب، حيث لا تتوفر مراكز الحصانة النفسية، ويؤثّر ذلك بشكل خاص على النساء غير المستقلات”.
وحتى عندما لا يكون البعد الجغرافي عائقًا في تقديم العلاج النفسي، تبرز مشكلاتٌ أخرى. من ضمنها، عدم وجود مراكز معلومات تساعد المتعالجين على معرفة أماكن العلاج وأنواع العلاجات المقدَّمة. “الناس لا تعرف أين تذهب إذا أرادت العلاج. لا يوجد قاعدة بيانات للصحة النفسية، أو دليل إرشادي يُقدِّم معلومات أساسية، مثل إمكانية العلاج عبر صندوق المرضى من خلال طبيب العائلة بدون دفع أموال” تقول عوّاد.
كذلك، توجد عوامل ثقافية توسّع فجوات الصحة النفسية في المجتمع العربي، من ضمنها الوصمة المجتمعية التي قد تجعل البعض يتردد في تلقي العلاج، وتزيد حتى من مخاوف المهنيين العرب العمل في مجتمعاتهم المحلية. ويضاف إلى ذلك نقص الملاءمة الثقافية واللغوية، فغالبًا لا يكون مُقدِّم الخدمة النفسية ناطقًا بالعربية أو مرتبطًا بالسياقات الثقافية. “يوجد أيضًا تنوع ثقافي داخل المجتمع العربي نفسه، معالج عربي من الشمال قد لا يعي تمامًا احتياجات المجتمع في النقب، حيث يوجد العديد من البلدات غير المعترف بها التي تفتقر للملاجئ وأماكن الحماية المنزلية” تضيف عزام.

تكشف نتائج البحث أيضًا أن العديد من خدمات الصحة النفسية التي تقدمها المؤسسات العربية تكون أشبه بردّة فعل أو استجابة لحالات الطوارئ، كالحروب. فأكثر من نصف المبادرات نشأت مباشرةً بسبب الوضع الحالي للحرب، وتمّ تعديل نسبة كبيرة منها لتلبية احتياجات الطوارئ. أما المبادرات غير المرتبطة بحالة الطوارئ فكانت أقل من 6%. ورغم أن هذه الصورة تعكس جانبًا إيجابيًا يتعلق بالقدرة على التكيف والاستجابة السريعة والتنظيم العالي، لكنها تثير أيضًا أسئلة حول استدامة الخدمات على المدى الطويل، كون العديد من المؤسسات تظلّ محبوسة في دائرة ردّة الفعل على الأزمات.
نربط الخيوط معًا
المرحلة الثانية من مشروع قدرة للصحة النفسية هي عبارة عن خلوة تشبيكية تدريبية للحصانة النفسية، ستقام يومَي الخميس والجمعة 24-25 يوليو في فندق ليجاسي في الناصرة. “هدفنا أن نربط الخيوط معًا ونشبك بين جميع الأطراف العاملة في مجال الصحة النفسية، لتعزيز الحوار والتنسيق فيما بنيهم“، يقول الدكتور مرشد فرحات المشرف على المشروع وأحد أعضاء إدارة قدرة، ويضيف: “الخدمات النفسية اليوم مشتتة، وكل جهة تقدم ما لديها دون معرفة ما تقدمه الجهات الأخرى، وفي ظلّ غياب رؤية مشتركة أو تكاملية بين الأطراف“.
فكرة الخلوة التشبيكية نابعة من فلسفة عمل قدرة نفسها، التي بُنِيَت كشبكة تربط بين المتبرعين من الأفراد والمؤسسات من أجل العطاء المشترك وتسهيل إحداث التغيير. “نحن نؤمن أنّ بناء معرفة مشتركة بين الأطراف الفاعلة في مجال الصحة النفسية هو الضمان لإحداث التغيير الاجتماعي المنشود. هناك طاقات هائلة في المجتمع العربي في هذا المجال، لكن ينقصهم دفيئة حاضنة للتعلم من بعضهم والاطلاع على المبادرات التي يقوم بها زملاؤهم في الحقل والتخطيط المشترك” يقول مهنا. ويقترح الدكتور فرحات بعض الحلول التي سيتمّ نقاشها خلال الخلوة التشبيكية: “من الحلول المطروحة بناء مركز يوفّر المعلومات التي يحتاجها كلٌّ من المعالجين والمتعالجين، إضافة إلى مركز لتدريب وتأهيل معالجين غير رسميين من العاملين الاجتماعيين ومعلّمي المدارس بهدف توسيع دائرة الأثر، عبر القيام بتشخيص أولي لطلابهم وتسهيل الربط بينهم وبين المعالجين الرسميين”.

لا تهدف قدرة من مشروعها تقديم علاج نفسي مباشر، أو اقتصار نشاطها على دعم مشاريع مؤقتة، بل تطمح إلى خلق رؤية مستقبلية وحلول مستدامة. “ليس هدفنا أن نحلّ مكان المعالج النفسي. هدفنا واضح وهو وضع قضية الصحة النفسية والحصانة المجتمعية على طاولة البحث والنقاش حتى يجد الأخصائيون والخبراء في هذا المجال حلولًا مستدامة. نحن في قدرة سنكون عنصرًا مساعدًا لهم لبناء شبكة توفّر الأدوات ووسائل المعرفة والمعلومات لمن يحتاجها من المعالجين والمتعالجين” يقول وليد عفيفي.
في كثير من الأحيان يكون غياب الثقة هو ما يمنع الناس من التوجه إلى العلاج النفسي، وخاصة في العلاجات عبر الإنترنت. “أحيانًا لا يثق الناس بالمعالجين وراء الشاشات، بسبب الشعور بمسافة نفسية فاصلة، وأحد الأهداف الرئيسية من عقد الخلوة التشبيكية هو خلق الثقة لدى المجتمع العربي أن هناك منصة موثوقة ومعالجين مهنيين يحافظون على خصوصية المتعالجين ويحظون بدعم شبكة مثل قدرة لديها احترام مجتمعي كبير” تقول عزّام.
الصحة النفسية ليست رفاهية
ليست الصحة النفسية ترفًا أو رفاهية، ولا يقتصر أثرها على الجانب الإنساني المتعلّق بالمتعالج وحده، بل يمتد أثرها إلى المجتمع بأسره. فالشاب الذي لا يتلقى علاجًا نفسيًا مناسبًا قد ينحدر إلى دوامة الجريمة، والأم التي تعاني من اكتئاب دون أن تتلقى العلاج قد تهمل رعاية أطفالها، والبالغون الذين يعانون من اضطرابات القلق قد يمتنعون عن الاندماج في سوق العمل. “عندما يشعر الإنسان براحة نفسية، تتحسن إنتاجيته وتتسع رؤيته، فيكون قادرًا على مشاركة أفكاره والقيام بمبادرات خلّاقة، لها مردود اقتصادي ومجتمعي. أما من يعاني من أزمة نفسية فيظلّ حبيسًا في ذاته، ويكون سلّم أولوياته مختلفًا. فآثار الصحة النفسية عديدة ومتشعبة” يؤكد عفيفي.

لكن قد يتساءل البعض، ما الذي قد يدفع المتبرعين العرب للتبرّع لصالح مشاريع الصحة النفسية، التي فشل العديد منها في السابق بسبب الوصمة المجتمعية وغيرها من العوامل؟ على هذا التساؤل تجيب عوّاد: “صحيح أن هناك وصمة اجتماعية، لكن توجد أيضًا قوائم انتظار طويلة، والناس باتوا أكثر وعيًا بأهمية التوجه للعلاج النفسي، لا سيما بعد فترة جائحة كورونا والحرب. أصبحت الصحة النفسية موضوعًا متداولًا في الأحاديث اليومية بين مختلف فئات المجتمع. صحيح أننا لا زلنا بحاجة إلى الكثير من العمل، لكن هناك ما يدعو للتفاؤل ويشجع على الاستثمار، خاصة في ظل الحاجة الشديدة“. وتضيف عوّاد: “نهدف إلى استغلال دور المؤثرين ووسائل الإعلام في كسر هذه الوصمة، وسيُسهم التشبيك في جعل البرامج أكثر استدامة ويشجع على استمرار المشاريع، دافعًا الناس إلى الإقبال على العلاج النفسي والاستمرار فيه”.
للمزيد عن شبكة المتبرعين العرب “قدرة” يرجى الضعط على هذا الرابط.











