
تشهد مؤسسات المجتمع المدني العربي في إسرائيل في السنوات الأخيرة تصاعدًا في التحديات البنيوية والسياسية، تتجسّد في قيود تمويلية متزايدة، وصعوبات هيكلية تهدّد استدامة عملها. من بين أبرز هذه التحديات مؤخرًا تأتي محاولات تقويض قدرة الجمعيات على تلقي تمويل من الخارج، بما في ذلك من مؤسسات وصناديق مانحة أوروبية وأميركية، مثل “הצעת חוק תרומות מחו”ל” (مشروع قانون الجمعيات -تعديل: التبرع من كيان سياسي أجنبي)، إلى جانب التقييدات الجديدة الناتجة عن قرارات إدارة ترامب الحالية التي أوقفت دعم الـ USAID ومنظمات أخرى لمبادرات مدنية في المنطقة.
هذه التحديات لا تأتي في فراغ، فهي تتقاطع مع واقع من الفجوات الاجتماعية والاقتصادية العميقة، ومع غياب بنى مؤسسية قادرة على تقديم حلول ممنهجة ومستدامة لهذه الفجوات. وعلى الرغم من أن للعطاء في المجتمع العربي جذورًا ثقافية ودينية وتاريخية راسخة، إلا أن هذا العطاء لا يزال في معظمه غير مؤسّس أو مُمأسس بما يكفي، ويعاني من غياب التنظيم والرؤية الاستراتيجية، ما يحدّ من أثره في مواجهة التحديات المتراكمة.
رغم وجود نظامين فيلانتروبيين (من كلمة Philanthropy التي تعني العطاء) متقدمين – في المجتمع اليهودي داخل إسرائيل وحول العالم، وفي العالم العربي – إلا أن الواقع السياسي والاجتماعي الخاص بالمواطنين العرب في إسرائيل يبعدهم فعليًا عن كليهما، ما يفاقم هشاشتهم التمويلية. من هنا، نشأت شبكة قدرة لتبني حقل عطاء منظم، مهني ومستقل داخل المجتمع العربي، وتسعى في الوقت نفسه لربط هذا الحقل بالشبكات المحلية والدولية لتوسيع التأثير وتعزيز الشراكات. هذا التحدي يتجلى أيضًا في ضعف التمثيل المؤسسي: فرغم أن العرب يشكلون 21% من السكان، لا تتجاوز نسبة الجمعيات العربية 5% من مجمل الجمعيات في البلاد، وغالبيتها جمعيات صغيرة تواجه عقبات تمويلية وإدارية وتنظيمية.
ضمن هذا الواقع، تعمل قدرة على تحقيق ثلاث أهداف مركزية: توسيع حجم التبرعات وتأثيرها، تعزيز الشعور بالانتماء والتكافل، ودفع التعاون بين القطاعات المختلفة.
لكن ما يبدو تحديًا هو أيضًا فرصة تاريخية. فقد آن الأوان للتحرر من منطق الاتكالية وبناء نموذج محلي للعطاء – منظم، مسؤول واستراتيجي – يواكب احتياجات المرحلة، ويؤسس لإستدامة مالية وتنفيذية.
منذ انطلاقتها، انطلقت شبكة “قدرة” من قناعة بأن الفيلانتروبيا ليست ترفًا، بل حجر أساس في بناء مجتمع متماسك، مبادر، وحصين. جوهر هذا المشروع يكمن في تطوير أدوات تمويل ذاتية: من استقطاب المتبرعين من الطبقة الوسطى، إلى توسيع دوائر العطاء المحلي، وصولًا إلى شراكات تقوم على الثقة والمساءلة المتبادلة.
العطاء المنظّم، كما نطمح إليه، ليس فقط حلاً لتحديات التمويل، بل هو مشروع ثقافي واجتماعي متكامل. هو انتقال من رد الفعل إلى التخطيط، ومن الاستجابة الظرفية إلى بناء استراتيجيات بعيدة المدى. عبر تطوير نماذج مبتكرة مثل “دوائر العطاء”، أو ما نُطلق عليه Giving Circles، وعبر خلق أدوات تقييم ومأسسة للعلاقات بين المتبرع والمجتمع، نرسّخ ثقافة جديدة: ثقافة المشاركة الفاعلة والانتماء الجماعي.
وفي هذا الإطار، من المهم إعادة تعريف العلاقة مع صناديق الدعم، المحلية والدولية، على أساس الشراكة والندية. على الجمعيات المحلية أن ترى نفسها فاعلًا استراتيجيًا لا متلقيًا للدعم، إذ تعزز علاقة مبنية على تبادل المعرفة والاحترام والثقة فعالية التمويل وأثره. فنحن لا نطلب دعمًا بدافع الحاجة فقط، بل نعرض شراكة تستند إلى فهم عميق للسياق المحلي وقدرة على توجيه الموارد بفعالية واستدامة. وهذه الرؤية تعزّز استقلالنا، وتؤكّد أن حقلنا المدني مجال مهني مستقل لا تابع.
في هذا السياق، تلعب القيادة المجتمعية العربية دورًا محوريًا. فالمطلوب هو تبنّي مقاربة جديدة: لا ننتظر الحلول من الخارج، بل نبنيها من الداخل. فنمكّن المتبرعين المحليين، ونوفّر لهم الأدوات والمعرفة، ونربطهم مباشرة باحتياجات المجتمع عبر تدخلات قائمة على معطيات وبيانات.
الرؤية واضحة: نحو مجتمع عربيّ متكافل، يملك القدرة على إدارة احتياجاته، ويشارك بفعالية في صياغة مستقبله.
هذه ليست مهمة قدرة وحدها، بل مسؤولية جماعية نتقاسمها كناشطين، فاعلين، ومؤسسات.
في ظل ما يشهده الحقل المدني من تهديدات، تصبح الاستدامة المالية، وتطوير العطاء المنظّم، ضرورة وجودية وليست ترفًا استراتيجيًا. هي السبيل في بناء مجتمع حر، واثق، ومؤثّر.
لنتجاوز القيود بتوسيع أفق الممكن، ولنصنع الاستدامة بأدواتنا، من داخلنا. وليكن هذا النداء موجهًا لكل من يرى في العطاء وسيلة للتغيير، أن يروا في “قدرة” عنوانًا لهذا الطريق: طريق المهنية، والشراكة، والتمكين المجتمعي.
* المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة موقع وصلة للاقتصاد والأعمال