
ما ظننا يومًا أنّه مجرّد أداة مساعدة لتسهيل أعمالنا، بدأ بالفعل يتحول إلى قوة تبتلع وظائفنا وتغير سوق العمل العالمي. فقد أعلنت مايكروسوفت عن موجة تسريحات جديدة الأسبوع الماضي طالت ما بين 6,000 إلى 7,000 موظف، أي نحو 3% من قوتها العاملة، لتكون الأحدث ضمن سلسلة التسريحات التي عززها الاعتماد المتصاعد على الذكاء الاصطناعي، إضافة إلى زيادة الاسثتمار فيه من أجل تقليل النفقات. اللافت في هذه الجولة من التخفيضات هو أنها طالت مبرمجين ومهندسي برمجيات ومديري المنتج Product Manager، أي وظائف كانت حتى وقت قريب في صدارة الطلب.
بحسب ما أعلنته مايكروسوفت وشركة ألفابت (الشركة الأم لغوغل)، فإن الذكاء الاصطناعي يُستخدم حاليًا في كتابة أكثر من 30% من الأكواد البرمجية داخل الشركتين، ما يطرح تساؤلات حقيقية حول مستقبل مهنة البرمجة خلال السنوات القليلة القادمة. وهو ما تؤكده تصريحات كبير مسؤولي التكنولوجيا في مايكروسوفت، كيفين سكوت، بأنه يتوقع وصول الذكاء الاصطناعي إلى مستوى فائق يجعله قادراً على كتابة 95% من الأكواد البرمجية خلال السنوات الخمس القادمة.
في السنوات الأخيرة، ضخت الشركات التكنولوجية الكبرى، وعلى رأسها غوغل ومايكروسوفت، مليارات الدولارات في تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي (Generative AI)، وبالمقابل، بدأت تُقلّص من أقسام كانت يومًا محورية، مثل التسويق والدعم الفني والبحث والبرمجة. فالهدف ببساطة هو مزيد من الإنتاج بأقل عدد من الموظفين.
وفي هذا السياق، صرحت شركة Intuit في فبراير أن استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي أدى إلى “زيادة تصل إلى 40% في سرعة كتابة الأكواد”، بينما أعلنت شركة كوكاكولا أن إعلانها لعيد الميلاد في عام 2024 صُمم بالكامل بواسطة الذكاء الاصطناعي. حتى Expedia، الشركة العملاقة في مجال السفر الرقمي، أوضحت أنها تستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي لتقليص وقت العمل وزيادة فعالية أقسام التسويق.
شركة Palantir، التي تُعتبر من أكثر الشركات تقدمًا في مجالات تحليل البيانات والتقنيات الدفاعية، كانت أكثر صراحة، حين أكدت أن الذكاء الاصطناعي الذي تعتمد عليه لا يحسّن الكفاءة بنسبة 50% فقط، بل يعززها بـ”خمسين ضعفًا”، ما يُترجم إلى تغيير جوهري في هيكل العمل، لا مجرد تحسينات جزئية.
اللافت أن التحولات لا تقتصر على الوظائف في الشركات التقنية وحدها. صندوق الثروة السيادي النرويجي أعلن أنه لا ينوي توسيع عدد موظفيه في ظل قدرته على استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي بكفاءة أعلى. شركتا Shopify وDuolingo تشاركان نفس الموقف، حيث أعلنتا تقليصًا في التوظيف أو تغييرات داخلية تؤثر على طواقم الدعم والتسويق، ضمن مسعى لتحسين الإنتاجية عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي.
بحسب الباحثة مولي كيندر من معهد بروكينغز في تصريحها لبلومبرغ، فإن العاملين في مجال البرمجة هم “الأوائل الذين يلمسون التغيير العميق الذي يجلبه الذكاء الاصطناعي”، لكنها تحذر من أن هؤلاء “لن يكونوا الأخيرين”. وتضيف أن “الذكاء الاصطناعي التوليدي يعيد تشكيل طبيعة العمل نفسها، ويُدخل تعديلات بنيوية في كل قطاع، من الشركات إلى الحكومات”.
الخبير الاقتصادي نيكولاس بلوم من جامعة ستانفورد يرى أن ما يجري هو بداية لـ”شتاء توظيفي”، في إشارة إلى تراجع الحوافز لدى الشركات لتوسيع طواقمها. ويقول: “الشتاء لم يصل بعد، لكن الثلج بدأ يتساقط”. فبدلاً من فتح وظائف جديدة، تلجأ الشركات إلى التحسين الداخلي والتوسع التكنولوجي، بما يتطلب موارد بشرية أقل.
وبينما تشير البيانات إلى أن “السبع العظام” – في إشارة إلى الشركات التكنولوجية الكبرى مثل مايكروسوفت، غوغل، آبل، أمازون، ميتا، إنفيديا وتسلا – قد تكون وصلت إلى ذروة التوظيف لديها، يعتقد جيفري بوسغانغ، من شركة فنتشر كابيتال Flarebridge Partners في حديثه مع بلومبرغ، أن عدد الموظفين فيها قد لا يرتفع مجددًا، رغم ارتفاع الإيرادات السنوي بنسبة 20%-30%. فالنمو بات ممكنًا دون الحاجة لزيادة الموظفين، طالما أن الذكاء الاصطناعي قادر على سد الفجوة.
ما يحدث في السوق التكنولوجي الآن ليس مجرد موجة طارئة، بل ربما يشير إلى تحوّل طويل الأمد في الطريقة التي تُدار بها الشركات وتُبنى بها الوظائف. وبينما يرى البعض في الذكاء الاصطناعي فرصة لتحسين الكفاءة، يتوجّس آخرون من تهديد وجودي يطال وظائف كانت حتى الأمس القريب تُعد في مأمن من الأتمتة.
الأمر المؤكد هو أن الذكاء الاصطناعي لم يعد فقط يكتب النصوص ويحلّل البيانات، بل أصبح يُعيد كتابة مستقبل العمل نفسه، والمبرمجون ليسوا سوى الفصل الأول في هذه القصة.
مقالات ذات صلة: دليل OpenAI الجديد: أي نموذج من ChatGPT يناسب احتياجاتك؟











