/
/
من شفاعمرو إلى إيرلندا: فلافل وحمص وقضية

من شفاعمرو إلى إيرلندا: فلافل وحمص وقضية

من شفاعمرو، إلى مدينة ويكسفورد في أيرلندا، تركت ميرنا أرملي أمان ورفاهية العمل في الهايتك لتحمل وصفة الفلافل العائلية وتحولها إلى مشروع يحمل رسالة كولينارية ووطنية تُطعم أكثر الأوروبيين تعاطفاً مع فلسطين.
أيقون موقع وصلة Wasla
wasla brands

من حارة وادي الصقيع في شفاعمرو، إلى مدينة ويكسفورد الساحلية الصغيرة في أيرلندا، تركت ميرنا أرملي أمان ورفاهية العمل في الهايتك لتحمل وصفة الفلافل العائلية وتحولها إلى مشروع تجاري يحمل رسالة وطنية وكولينارية تُطعم أكثر الشعوب الأوروبية تعاطفاً مع قضية فلسطين.

بعد أن أنهت دراستها الجامعية في موضوع اللغات والترجمة في مدينة تيريستي الإيطالية خططت ميرنا أرملي للعمل في مجال دراستها والعودة إلى بيت العائلة في شفاعمروـ لكن للقدر كانت خطط أخرى لم تكن بالحسبان، فيأخذها في رحلة من وادي الصقيع في شفاعمرو إلى شركات الهايتك في دابلن ثم إلى “فلافل الوادي“، أوّل فود-تراك فلسطيني في ويكسفورد، الذي حوّلت من خلاله مع زوجها الإيرلندي فيرجال وصفة الفلافل العائلية إلى مشروع تجاري ناجح يقدّم الفلافل والحمص وأصناف المطبخ الفلسطيني مع الكثير من الإضافات السياسية والوطنية.

e6b5109e 771c 47e6 87f9 2c992ca44b13
ميرنا أرملي مع زوجها فيرجال أمام مشروعهما “فلافل الوادي”

في البداية حدّثينا كيف جاءت فكرة مشروع “فلافل الوادي”؟

جاءت الفكرة خلال فترة الكورونا. عدنا أنا وزوجي فيرجال إلى البلاد في سنة 2021، حين كنتُ في إجازة ولادة وكان ابني صغيرًا. ففي ظلّ أجواء القلق وعدم اليقين التي سادت تلك الفترة، يشعر الإنسان بالحاجة للبقاء قرب عائلته. أخذنا هذا القرار المجنون بالعيش في البلاد لسنة أو سنتين، وترك زوجي وظيفته في دبلن حيث كنا نعيش. في تلك الفترة، كنتُ أعمل من البيت، لكنني لم أحبّ عملي، فقررنا أنا وزوجي تغيير أسلوب حياتنا. وعلى شاطئ بحر حيفا، أخبرني زوجي بفكرة عربات الطعام “فود تراك”، التي بدأت تتوسع في فترة الكورونا بسبب الحجر على التجمعات في المطاعم.

أنا وزوجي فيرجال نباتيان ونحبّ الطبخ كثيرًا ومشاركة الطعام مع أصدقائنا، لكننا لم نفكر من قبل في تحويل شغفنا بالطعام إلى مشروع تجاريّ. بعد تخرجي من الجامعة اندمجت في شركات الهايتك العالمية التي كانت لديها مقرات في دابلن لكني لم أجد نفسي في هذا النوع من العمل، فشعرت بأن  أن لحظة التحول في حياتنا قد حانت، فقلنا لم لا. درسنا الجدوى الاقتصادية فأدركنا أن المدخول أعلى من المطاعم أحيانًا بسبب قلة المصاريف.

لكن التنفيذ الفعلي للفكرة لم يتم سوى بعد سنتين، في منتصف 2023، بعد أن عدنا إلى أيرلندا، إلى مدينة ويكسفورد تحديدًا، لأن زوجي لم يتأقلم في البلاد بسبب الوضع السياسي والأجواء العنصرية. تأخرنا في التنفيذ لأنني كنتُ حاملًا بتوأم، ولأنّه كان علينا الانتهاء من الإجراءات اللازمة والتصريحات والفحوصات الصحية المعقدة بأيرلندا. لكننا تمكنّا في النهاية من افتتاح مشروعنا بالطريقة التي كنا نحلم بها.

697e0ca3 f0ca 4fa8 8094 2184cccae4e9 e1758716985233
عربة الطعام “فود-تراك” الخاصة بمشروع “فلافل الوادي”

ما هي المراحل التي مرّ بها مشروعكما؟

في البداية عملنا يومًا واحدًا في الأسبوع، إذ كان زوجي لا يزال يعمل في وظيفة كاملة، وكنتُ منشغلة مع الأولاد في البيت. كنا نذهب كلّ سبت إلى سوق المزارعين Farmers’ market القريب منا. وكنا ندرك أن المشروع يحتاج وقتًا ليتطور وتزداد أيام عملنا، حيث كنّا لا نزال حينها في المرحلة التجريبية، ولم نكن نمتلك جميع المعدات بعد. ورويدًا رويدًا، كنا نشارك في مهرجانات ومناسبات محلية ومجتمعية، واستغرقنا عدة أشهرٍ ليعمل “فلافل الوادي” بدوام كامل. ثمّ أخذنا قرارًا بالتفرّغ الكامل لمشروعنا، فترك زوجي عمله، وازدادت أيام علمنا، ووجدنا موقعًا رئيسيًا آخر غير سوق المزارعين، وكنّا نذهب إلى أكثر من مكان، وأحيانًا في الوقت ذاته.

لا يوجد فلافل في ويكسفورد، على عكس دبلن المليئة بالمطاعم العربية. والناس هنا أحبّوا طعامنا كثيرًا، وقد انتقل الكثير من السكان إلى ويسكفورد بعد جائحة كورونا، وكانوا سعداء بوجود مشروعٍ مثلنا يُقدِّم أطعمة بوصفات عائلية دافئة ولذيذة. عندما يُحبّ الناس طعامك، فأنت تعلم أنك على الطريق الصحيح، حتى لو كان المسار بطيئًا، ومليئًا بالتحديات والخسائر المالية. ثمّ أصبحنا نذهب إلى فعاليات أكثر ونشارك في مهرجانات أكبر. وأصبحت أيام عملنا هي الجمعة والسبت والأحد، لأنها أيام الإجازة الأسبوعية وتجري فيها معظم الفعاليات العامة.

كيف تنظمان وقتكما بين العمل وتربية الأطفال؟

تكمن الصعوبة في أنّ لدينا ثلاثة أطفال صغار، وتتزامن أوقات دوامنا مع عطلتهم الأسبوعية. فأحيانًا، نتركهم عند بيت أهل زوجي، أو نجلب جليسة أطفال، أو يضطر أحدنا للبقاء معهم في البيت. ورغم أنّ أيام عملنا في الفود تراك هي ثلاثة أيام بالأسبوع، إلا أنّ دوامنا فعليًا يشبه وظيفة كاملة، فعلينا أن نشتري أغراضًا خلال الأسبوع، ونقوم بتحضير الأكلات ومراعاة الوقت المناسب، فلا يمكن تحضير السلطات مثلًا إلّا قبل ساعة كي تظلّ طازجة.

الأمر ليس سهلًا، أحيانًا يأتينا أكثر من 150 زبون خلال ساعات قليلة، وغالبًا ما يكون أحدنا لوحده في الفود تراك، لأن الآخر مع الأولاد. وعندما نعود إلى البيت، هناك أيضًا الأعمال المنزلية، والتحضير لليوم الثاني من العمل كسلق كميات كبيرة من الحمص مثلًا. ثمّ يكون علينا الاستيقاظ في الصباح الباكر، لتحضير الأطفال للمدرسة. فالأمر يحتاج إلى تنظيم دقيق للوقت، وتقسيم للمهام بيني وبين زوجي، وتعويض الأولاد عن الوقت الذي لا نقضيه معهم.

aeba2e42 c7b1 481f 98c7 fe09a0a3030a
وجبات حمص وفلافل وتبولة، مع بقلاوة

كيف استقبل الجمهور الإيرلندي المشروع؟ وكيف تأثرت تجربتكم بعد الحرب؟

منذ البداية، كان هناك إقبال كبير وأحبّوا طعامنا جدًّا. الشعب الأيرلندي معروفٌ بتضامنه الكبير مع الشعب الفلسطيني، لأنهم مرّوا بتجارب مشابهة في الماضي. لم أُقابل أبدًا شعبًا مثلهم، وقد عشتُ سابقًا في إيطاليا وفرنسا، لكن لا أحد يفهم وضعنا ولديه معرفة عن القضية الفلسطينية ويتضامن معنا كالشعب الأيرلندي.

وكثيرًا ما يزورنا أشخاصٌ كانوا نشطاء أو متطوعين في فلسطين، وعندما يأكلون الفلافل الذي نُقدِّمه يستعيدون ذكرياتهم في البلاد و”الطعم الأصلي”. وزاد الإقبال بعد الحرب، وتعمّقت الأبعاد العاطفية والإنسانية للمشروع. فأصبح “فلافل الوادي” بمثابة تجمّعٍ لأشخاص يرغبون في معرفة المزيد عن القضية الفلسطينية، أو ملتقى للبكاء والتفريغ وتبادل المشاعر. ونحن لم نكتفِ بالدموع، فاستغللنا هذا الإقبال كي يكون “فلافل الوادي” منصّةً لمساعدة أهل غزة، فجمعنا تبرّعات للعائلات هناك، وقدمنا دعمًا لمؤسسات إغاثية مثل “مشروع سمير”.

ee9d1e91 02ad 4fb4 a0de 88a550555b64
تبرعات لغزة ضمن “فلافل الوادي”

يبدو أن للمشروع رسالة سياسية أيضًا

سواءً أحببنا أم لا، عندما يتعلّق الأمر بالطعام الفلسطينيّ، يأخذ المشروع فورًا أبعادًا سياسية. فبمجرّد أن ترفع علم فلسطين على الفود تراك، وتبيع فلافل، فأنت تجد نفسك “داخل” السياسة. لو كنّا نبيع بيتزا مثلًا ونرفع علمَ إيطاليا، لما كان للأمر أيّ أبعاد سياسية. فحتّى الحمص والفلافل أصبحا أداةً سياسية وثقافية، ويتمّ الترويج لهما على أنّهما طعامٌ إسرائيلي.

في إحدى المرّات، كنّا في فعاليةٍ للطعام، وكان هناك امرأةٌ أيرلندية تنظر بريبةٍ إلى مُلصق (بوستر) معلّق على الفود تراك يحمل علم فلسطين وعبارة “فلسطين حرّة” بالإنكليزية. وللمفارقة، كانت المرأة تتبنّى أفكارًا صهيونية، وهو أمرٌ نادرٌ بين الشعب الأيرلندي، فأخذتْ تتساءل باستنكارٍ عن سبب وضعنا للمُلصَق، ولماذا نحن الفلسطينيون نُسَيِّسُ كلّ شيء. فأجبتُها: “لو كنتُ أبيع سوشي وأرفع علم اليابان، هل كنتِ ستسألين السؤال ذاته؟ فقط لأننا نبيع حمص وفلافل ونرفع علم فلسطين أزعجكِ الموضوع؟ أنتم تعتبروننا غير موجودين، ولا نمتلك ثقافةً وتدّعون أنّ المطبخ الفلسطينيّ هو إسرائيليّ”.

المطبخ الفلسطيني غني بأكلات نباتية غير الحمص والفلافل، هل تفكران بتوسيع قائمة الطعام؟

أعتقد أنّ قائمة الطعام يجب أن تكون صغيرة ومرتّبة في مجال عربات الطعام. فمن المفضّل ألّا تتجاوز القائمة 4 أكلات رئيسية، وذلك يُسهِّل الاختيار على الزبون. لا يوجد لدينا مطبخ مثل المطاعم، فيجب أن يكون الطعام الذي نُقدِّمُه طازجًا ولذيذًا وسريع التحضير.

وبالإضافة إلى الحمص والفلافل، تحتوي قائمة طعامنا على تبولة وبابا غنوج ولفّات فلافل وخبز عربي نخبزه نحن وبقلاوة، وأضفنا مؤخرًا شاورما نباتية، التي لاقت استحسانًا كبيرًا من زبائننا، ونُفكِّر أيضًا أن نضيف مناقيش في المستقبل.

قبل شهرين، افتتحنا مشروعًا جديدًا BRONÉ MICRO BAKERY، نُقدِّمُ فيه قهوةً ومخبوزات نباتية، في شراكةٍ مع شيف محترف، وأوقات دوامنا أيضًا في نهاية الأسبوع.

90320dc5 d21b 4077 8d36 02f97c4e64ac
مخبوزات نباتية تُقدَّم ضمن المشروع الجديد لميرنا وزوجها

 ما هي خططكم المستقبلية؟ وهل تفكرين بالعودة إلى البلاد؟

خططنا المستقبلية بعد فتح مشروعنا الثاني هي التوسّع والاستمرار فيه، بالإضافة بالطبع إلى “فلافل الوادي”. حاليًا، استأجرنا ساحة لتكون مقرًا للمشروعين، وتتواجد هناك أيضًا ثلاثة عربات طعام تتغيّر كلّ أسبوع. واشترينا أثاثًا حتّى نوفّر حيّزًا دافئًا هناك للجلوس والتجمّع والحديث وتناول طعامٍ لذيذ.

أما بالنسبة للعودة إلى البلاد، فلا نخطط لذلك في الوقت الراهن. أحبُّ فكرة أن يعود أولادي إلى فلسطين، ويتكلّموا اللغة العربية وينشأوا بين أفراد أسرتي. لكن الوضع حاليًا في البلاد صعبٌ للغاية ومخيف، وحرب الإبادة لا تزال مستمرّةً منذ سنتين. فلا أظنّ أنّنا سنتمكّن من العودة قريبًا، لكنّ الأمل دائما موجود.

مقالات ذات صلة: مصنع أصلان للبلاط الشاميّ في نابلس: صمود في وجه الحداثة والظروف الاقتصادية القاسية

مقالات مختارة