/
/
مصنع أصلان للبلاط الشامي في نابلس: صمود في وجه الحداثة والظروف الاقتصادية القاسية

مصنع أصلان للبلاط الشامي في نابلس: صمود في وجه الحداثة والظروف الاقتصادية القاسية

أيقون موقع وصلة Wasla
wasla brands

في وسط مدينة نابلس شمال الضفة الغربية، يقع مصنع أصلان للبلاط الشامي القديم. ووفقًا لأصحاب المصنع، بدأت عائلة أصلان مسيرتها قبل خمسة أجيال، حيث أسس جدهم الأكبر، جميل أصلان، المصنع الأصلي في حيفا عام 1913. ومن هناك، انتقل إلى يافا، قبل النكبة.

ورغم أن ورثته اليوم ليسوا متأكدين تمامًا من الموقع الذي كان فيه المصنع في يافا، إلا أنهم عثروا في يافا على ورشة لصناعة البلاط الملون الذي يستخدم نفس القوالب القديمة – وهي شهادة ملموسة على الاستمرارية الثقافية – ولكنها ليست دليلاً قاطعًا على أنه نفس المصنع الذي أسسه جدهم.

البلاط الشامي هو عنصر زخرفي ومعماري غني في العمارة التقليدية في بلاد الشام (سوريا، فلسطين، لبنان، الأردن)، وخاصة في القصور والمنازل القديمة والمساجد في دمشق. يتمتع هذا النوع من البلاط بجمالية خاصة تميزه عن الأساليب الأخرى في الفن الإسلامي، مثل الأسلوب الأندلسي أو المغربي.

3 2
عامل في مصنع أصلان يصنع بلاطة منصوعة يدويًا

مهنة متوارثة من الأجداد إلى الأحفاد

صنع البلاط في مصنع أصلان لا يزال وفيًا للتقاليد المتوارثة حتى يومنا هذا، إذ يتم صنعه بشكل يدوي بالكامل، بدون آلات أو خط إنتاج صناعي. حسبما هو معروف، يعتبر هذا المصنع الأخير في المنطقة الذي يستمر في إنتاج البلاط بالطريقة التقليدية. ونظرًا لندرته الشديدة، فقد اكتسب البلاط الملون والمزخرف مع مرور السنين لقب “بلاط نابلس”، على اسم المدينة التي يُنتج فيها حصريًا.

التقينا مع عنان أصلان (50 عامًا)، حفيد مؤسسي المصنع ومديره الحالي، في غرفة تبدو أشبه بمتحف خاص منها إلى مكتب عمل. أحاطت بنا أدوات عمرها مئات السنين، وراديو قديم وهاتف أسود ثقيل، ونحاسيات وماكينة خياطة يدوية. غطت صور العائلة جدران الغرفة، كاشفةً عن أجيال من الصنّاع والفنانين.

يقول عنان: “ورثنا هذه المهنة عن أجدادنا على مر الأجيال، ونحن ملتزمون بتوريثها لأطفالنا. لا تهم الشهادات الأكاديمية التي حصلنا عليها، فجميعنا نعمل في المصنع العائلي. كنا نعود من الجامعة أو من وظيفتنا، ونبدأ على الفور نوبة ثانية هنا. هذه المهنة متأصلة في هويتنا كفلسطينيين. البلاط الذي ننتجه هو جزء من العمارة الفلسطينية التي زينت مدنًا مثل حيفا، يافا، نابلس، والقدس، وهو أيضًا جزء من التراث الأوسع لبلاد الشام، وحتى الأندلس. لهذا السبب، من المهم جدًا التمسك به، خاصة في عصر الحداثة والتقدم الذي يقدم تقليدًا رخيصًا ونسخًا مزيفة، ولكنه لا يقدم الجوهر الحقيقي أبدًا”.

بلاط فلسطيني بامتياز

“كل تفصيلة وكل ملمس في البلاط الذي نصنعه مرتبط بأرض فلسطين” يقول عنان أصلان. “الأحجار المستخدمة في الإنتاج ليست مستوردة، فمصدرها المحاجر القريبة من نابلس، مثل محجر قرية عصيرة القبلية، وتعتبر من أجود الأحجار في العالم”. ويضيف: “هذه الأحجار هي هدية أرضنا لنا”.

للبلاط الشامي أو “النابلسي” خصوصية أخرى، تكمن في العلاقة التي تنشأ بينه وبين المنزل وسكانه. يوضح أصلان: “كلما مشى الناس على البلاط، وكلما اهترأ بملامسة أقدام أهل المنزل، ازداد جماله وتحسنت جودته. ولكن عندما هُجرت المنازل في عام 1948، بقي البلاط يتيمًا، فبهتت ألوانه وخفت بريقه. ولن يستعيد البلاط زخارفه وحكاياته، إلا بعودة سكان البيوت إليها”.

2 4
عنان أصلان

من دمشق الكبرى إلى دمشق الصغرى

بما أن صناعة البلاط الملون متجذرة في فلسطين كجزء لا يتجزأ من تراث بلاد الشام، فإن أدوات العمل والمعدات جاءت هي الأخرى من منطقتنا هذه، وخاصة من دمشق. يروي عنان أصلان أن المعدات الأصلية صُنعت في سوق النحاسين الشهير في دمشق، ويضيف بشيء من الحنين: “كان ذلك في العصر الذهبي، عندما كنتَ تسمعهم في محطة الحافلات في نابلس ينادون على الركاب قائلين: من دمشق الصغرى إلى دمشق الكبرى“.

ولكن بعد حرب عام 1967 واحتلال الضفة الغربية، انقطعت العلاقة المستمرة مع دمشق. اضطر جده حينها إلى اللجوء إلى الحرفيين المحليين، الذين صنعوا له المعدات والقوالب. وهكذا، نشأت سلسلة تاريخية فريدة من نوعها: فبعض أدوات العمل المستخدمة في المصنع حتى اليوم هي أدوات قديمة أصلها من أسواق دمشق، بينما صُنع الجزء الآخر منها بأيدي حرفيين فلسطينيين محليين، وهي شهادة حية على الترابط بين التراث العربي العميق والتجديد المحلي الفلسطيني.

مئات التصاميم المصنوعة يدوياً

يُنتج مصنع أصلان مئات التصاميم والرسومات والزخارف الأصلية، ولكل منها اسمها الخاص، من أشهرها “باب الجامع”، و”القدسية”، و”البيروتية”، و”التاج”، و”النجمة”، و”الدولاب” وغيرها. وإلى جانب ذلك، يصمم الحرفيون في المصنع بلاطًا مزخرفًا بحسب الطلب. كل قطعة بلاط تُولد بجهد يدوي: يصب العمال الخلطات والألوان في قوالب نحاسية خاصة تُعرف باسم “الشبلونة”، ثم يضغطون كل بلاطة في مكبس. تستغرق عملية صنع بلاطة حوالي خمس دقائق – وهو إيقاع بطيء مقارنة بالمصانع الحديثة التي تنتج عشرات القطع في نفس الفترة الزمنية، ولكن بالنسبة لعائلة أصلان، لا يوجد بديل عن الطريقة التقليدية، التي لا تُقاس بالقدرة الإنتاجية بل بالروح.

في المنازل والقصور والمقاهي في نابلس – وخاصة في قلبها التاريخي داخل البلدة القديمة- أصبح البلاط الملون منذ فترة طويلة السمة المعمارية المميزة للمكان. ومع ذلك، يحذر عنان أصلان من أن المصنع معرض لخطر الإغلاق. فبسبب انخفاض الطلب، وتفضيل البلاط الحديث، وموجة استيراد البلاط الصناعي المقلّد الرخيص، أصبح وجود المصنع مهددًا. ووفقًا له، فإن الفرق بين البلاط التقليدي والحديث ليس تقنيًا فقط: “إنه مثل الفرق بين الثوب الفلسطيني الأصيل، الذي حيك بأيدي نساء فلسطينيات، وبين ثوب نسجته آلة باردة، فهو ثوب بلا روح، وإبداع”.

1 2
أثناء صنع وتلوين البلاط في المصنع

محاولات الطمس

على مرّ السنين، حاول أصحاب مصنع أصلان تصدير بلاطهم إلى الخارج، لكنهم واجهوا على الدوام صعوبات وعقبات. فمن جهة، هناك بيروقراطية فلسطينية معقدة تتعلق بالتراخيص ونقل الملكية داخل عائلة أصلان، التي حافظت على المصنع لخمسة أجيال؛ ومن جهة أخرى، هناك القيود الإسرائيلية المفروضة على شروط التصدير. وهكذا، اضطر المصنع للعمل ضمن حدود ضيقة لا تسمح له بالتطور خارج نطاق موقعه.

ألمح عنان أصلان أيضًا إلى أن جهات إسرائيلية حاولت فتح فرع للمصنع في إسرائيل، لكن العائلة رفضت ذلك باستمرار. فبالنسبة لهم، البلاط ليس مجرد منتج، بل هو رمز للهوية، ونقله إلى إسرائيل سيُعتبر محاولة لطمس أصالته ودمجه ضمن سردية أخرى.

الواقع الاقتصادي يزيد الأمور صعوبة: بسبب الانخفاض الكبير في المبيعات – نتيجة للحرب، والحواجز، وتفضيل البلاط الحديث المستورد – يوظف المصنع حاليًا خمسة عمال فقط. وقد انخفض الإنتاج إلى حوالي ثلاثين مترًا مربعًا في اليوم، بعد أن كان يصل في السابق إلى مئة متر مربع أو أكثر.

ومع ذلك، لا يزال عنان أصلان متمسكًا بالأمل. فهو يناشد الفلسطينيين على اختيار البلاط الملون لمنازلهم الجديدة، ويشجع أصحاب البيوت القديمة على تجديد منازلهم وإعادة البريق إلى البلاط الأصيل. إلى جانب ذلك، يدعو الحكومة الفلسطينية إلى تبني الطراز المعماري الشامي أيضًا في المؤسسات الرسمية والمقرات الحكومية – للتعبير، بالحجر واللون، عن الهوية المعمارية الفلسطينية، التي تربط بين تراث بلاد الشام والأندلس.

المقال منشور بإذن من موقع صبرا

مقالات مختارة