في جلسة حوارية ضمن مؤتمر التشغيل السنوي الذي نظّمته مؤسسة الفنار في الناصرة يوم الثلاثاء (18.11)، شاركت مجموعة من الشخصيات الريادية في الحكم المحلي، والفيلانتروبيا، والمجتمع المدني في نقاش تجاوز عنوانه الرسمي – “السلطات المحلية، الفيلانتروبيا والمجتمع المدني: شركاء في التطوير الاقتصادي” وتحول إلى نداء عاجل من أجل تغيير الواقع.
على المنصة، وبإدارة السيد أحمد مهنا، مدير عام شبكة قدرة، جلس رئيس بلدية شفاعمرو، ناهض خازم، وأريئيل دِلومي، مدير عام صندوق براخاه؛ سليمان العمور، مدير عام مشارك أجيك – معهد النقب؛ ونريمان سليمان، مديرة المجتمع العربي وبرامج ريان في جمعية “بعتسمي”. كشف الحوار صورة معقدة من العوائق البنيوية، والإمكانيات الهائلة المهدورة، وإجماع على الحاجة الملحّة لتغيير نموذج وأسلوب العمل.
النقاش تمحور حوال سؤال مركزي: كيف يمكن تجنيد جميع الأطراف لبناء شراكة حقيقية تدفع التطوير الاقتصادي، ولماذا هذه المعركة – كما وصفها مدير الجلسة – لم تعد تتعلق بـ”جودة الحياة”، بل أحيانًا بسؤتا “الحياة والموت”.

عوائق بنيوية وإمكانات غير مستغلة
كل حل يبدأ بتشخيص دقيق، وفي الجلسة كان دور الحكم المحلي هو عرض الواقع من الميدان. كلمات ناهض خازم، رئيس بلدية شفاعمرو، شكّلت بداية النقاش حول الفجوة المؤلمة بين الإمكانات الهائلة الكامنة في البلدات العربية وبين العوائق البنيوية التي تخنق هذه الإمكانيات.
أشار خازم إلى عائقين مركزيين: غياب التخطيط الاستراتيجي الشامل في السلطات العربية على مدار سنوات، ونقص عميق في الموارد والبنى التحتية الأساسية، من الطرق وحتى الاتصال الثابت بالإنترنت. وقد جسّد هذه الحالة العبثية من خلال واقع حال مدينة شفاعمرو، الواقعة في موقع استراتيجي فريد، “تجلس على أربعة محاور مركزية”. ورغم ذلك، خسرت المدينة مؤخرًا مناقصة كبيرة لبناء مركز هايتك عالمي بسبب صعوبات تخطيطية وتنظيمية. هذه الإخفاقات ليست اقتصادية فحسب؛ بل تفتح الباب لحالة اليأس وفقدان الأمل، الذي يشكّل بيئة خصبة لعوامل الجريمة. “نحن نستحق أن نتنافس، لدينا كل الموارد، لدينا الكفاءات المهنية والنوايا لنكون في موقع القيادة”، يؤكد خازم.
الإخفاقات البنيوية التي وصفها حازم خلقت فراغًا تملأه مجالات العمل الخيري (الفيلانتروبيا) والمجتمع المدني. ومع ذلك، كما كشف النقاش، فإن تدخّلهم يسلّط الضوء على العوائق وعلى الحدود الطبيعية لعمل يجري من دون استراتيجية تكاملية شاملة.
الفيلنتروبيا والمجتمع المدني كعوامل مُسرّعة للتغيير
في منظومة بيئية لا توفر فيها الحكومة استجابة كاملة، وتُقيَّد فيها السلطات المحلية بعوائق متعددة، تدخل إلى الصورة جهات العمل الخيري والمجتمع المدني. أريئيل دِلومي، المدير العام لصندوق براخاه، عرض دورين مركزيين للعمل الخيري. الأول هو تقديم الحلول في الحالات التي توجد فيها “إخفاقات سوق” أو فجوات حكومية، مثل برنامج “إيشت حييل” الذي مهد الطريق لاعتماده داخل الوزارات الحكومية. أما الدور الثاني، وهو لا يقل أهمية، فهو بناء القدرات الداخلية لمنظمات المجتمع المدني نفسها، على سبيل المثال من خلال إنشاء “صندوق احتياطي” يمكّنها من التعامل مع المشاكل المالية التي تعاني منها السلطات بسبب التقليصات والبيروقراطية الحكومية.
ومع ذلك، حذّر دلومي من عقلية الاعتماد طويل الأمد على نموذج “المشاريع المشتركة” مع الحكومة. فقد وصفها بأنها حل وُلد “بخطيئة” لتجاوز المناقصات، وبيّن أنه رغم كونها أداة ممتازة على المدى القصير، فإنها تتحول إلى فخ خطير على المدى الطويل.
الصورة الميدانية استكملتها نريمان سليمان، مديرة مجال المجتمع العربي ومديرة برنامج ريان في منظمة “بعِتسمي”، التي شددت على الحاجة إلى مرافقة مهنية دقيقة ومخصّصة للنساء وللشباب. لكنها أيضًا أشارت إلى حلقة مفقودة وحاسمة: “نحن قادرون على بناء القدرات والتمكين لكن بدون وجود فرص عمل وتشغيل لائقة لا يمكن تحقيق النجاح”
ضرورة الشراكة الاستراتيجية
سليمان العمور عرض معادلة دقيقة لتحقيق النجاح. فقد وصف تطوّر المجتمع المدني من كيان يُنظر إليه كـ”مزوّد” خدمات، إلى جهة مهنية تطالب بمكانة “شريك استراتيجي جدًّا جدًّا”. النموذج الناجح، بحسب قوله، يتطلّب تعاونًا مشتركًا بين أربعة أطراف: الحكومة، الفيلانتروبيا، المجتمع المدني، والسلطة المحلية التي تقود المسار.
لكن هذا النموذج يصطدم بعائق مركزي: غياب الاستمرارية. “رؤساء السلطات المحلية يتبدّلون فنبدأ كل مرة من الصفر مع كل رئيس جديد” موضحًا كيف تُقطع البرامج طويلة المدى مع كل تغيير في القيادة. كحل، دعا ناهض خازم إلى إنشاء “طاولة مستديرة“ تجمع كل الأطراف لتحديد أهداف واضحة وقابلة للقياس. وأضاف العمور أن الأساس لكل شراكة فاعلة هو الثقة. فبدون ثقة بين اللاعبين، ستظلّ حتى أكثر الخطط بريقًا حبرًا على ورق.
الانتقال من التخطيط إلى الأفعال – “ليست فقط جودة حياة، بل حياة أو موت“
الجلسة، التي بدأت بنقاش حول التخطيط، انتهت بنداء عاجل إلى الثقة وتحمل المسؤولية. وكما لخّص مدير الجلسة، أحمد مهنا، فإن الرسالة المركزية التي برزت من المتحدثين كانت واضحة: “التطوير الاقتصادي في المجتمع العربي لن يحدث عند جهة أخرى. يجب تحمّل مسؤولية داخلية.” النقاش أوضح أن هذه المسؤولية يمكن أن تتحقق فقط عندما تقرّر القطاعات الثلاثة – الحكم المحلي، المجتمع المدني والفيلانتروبيا – العمل معًا بشكل مستمر، مهني ومبني على القيم، وبأن النضال من أجل تشغيل لائق أصبح بالنسبة لكثير من الشباب في المجتمع العربي سؤال حياة أو موت في ظل اغراءات عالم الجريمة والعنف.











