قي الولايات المتحدة، باتت قيمة اللقب الأكاديمي موضع شكّ متزايد، بعد أن أظهرت بيانات جديدة من البنك الفيدرالي في نيويورك أن أكثر من نصف خريجي الجامعات يعملون في وظائف لا تتطلب شهادة جامعية أصلًا. فرغم سنوات الدراسة الطويلة والتكاليف التي تصل إلى عشرات آلاف الدولارات، فإن كثيرين يجدون أنفسهم بعد التخرج في مهن لا تمتّ بصلة إلى تخصصهم أو لا تتطلب مؤهلات أكاديمية إطلاقًا.
وفق التقرير الذي نشر تفاصيله موقع كالكاليست الاقتصادي، يُعد تخصص علم الجريمة (الكرمنولوجيا) الأسوأ من حيث التوظيف في مجال الدراسة، إذ أن 67% من خريجيه يعملون في وظائف لا علاقة لها بتخصصهم. يليه فن الأداء Performance art بنسبة 62.3%، ثم التقنيات الطبية بنسبة 57.9%، والعلوم الإنسانية بنسبة 56.5%، وأخيرًا الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) بنسبة 55.6%. أي أن اثنين من كل ثلاثة خريجي هذه المجالات يجدون أنفسهم في مهن لا تتطلب لقبًا أكاديميًا.
حتى في تخصصات شائعة مثل إدارة الأعمال والاتصال الجماهيري والعلوم السياسية واللغات، ينتهي المطاف بدارسيها إلى وظائف خارج تصصخهم في نصف الحالات تقريبًا. أما خريجو الفلسفة والكيمياء والعلاقات الدولية، فيتمتعون بفرص أفضل نسبيًا لإيجاد وظائف تناسب دراستهم، حيث تتراوح نسب العمل في مجالاتهم بين 38% و41%.

التخصصات الآمنة
في المقابل، هناك تخصصات تُعتبر “آمنة” في سوق العمل الأمريكي، أبرزها التمريض، الذي يسجّل أدنى نسبة بطالة أو عمل خارج المجال بواقع 9.7% فقط. يلي ذلك التربية والتعليم بنسبة 16%، بينما يتمكن 85% من خريجي التخصصات الحاسوبية والهندسة الكيميائية من العمل في وظائف تتناسب مع مؤهلاتهم.
وبحسب موقع كالكاليست، يُرجع الخبراء هذا التفاوت الكبير إلى عدة أسباب، أهمها الفجوة بين ما تدرّسه الجامعات وما يطلبه سوق العمل. فالمؤسسات الأكاديمية لا تزال تركّز على المعرفة النظرية، في حين يبحث أرباب العمل عن مهارات عملية وتكنولوجية، مثل الخبرة في أدوات الذكاء الاصطناعي أو البرمجة أو تحليل البيانات. كما أن عدد الخريجين في التخصصات “الناعمة” مثل الفنون والعلوم الإنسانية يفوق بكثير عدد الوظائف المتاحة في تلك المجالات.
وتكشف الأرقام أن 52% من الخريجين الأمريكيين بعد سنة واحدة من التخرج يعانون من “التوظيف الناقص”، أي أنهم يعملون في وظائف لا تناسب مؤهلاتهم، وبعد عشر سنوات يظل 45% منهم في الوضع نفسه. أما من الناحية المالية، فالفوارق كبيرة: خريجو الجامعات الذين يعملون في وظائف تتناسب مع دراستهم يكسبون 88% أكثر من خريجي الثانوية العامة، لكن من يعملون خارج تخصصهم لا يتجاوز دخلهم 25% أكثر من خريج ثانوي فقط. وعلى مدى الحياة، يكسب صاحب الشهادة الجامعية في المتوسط 70% أكثر من شخص لم يتجاوز التعليم الثانوي، بحسب دراسة للفيدرالي في سانت لويس.
هذه الفجوة لا تؤثر فقط على الدخل، بل أيضًا على الشعور بالإحباط وفقدان الجدوى، إذ يرى كثير من الخريجين أنهم لم يستفيدوا فعليًا من استثمارهم الكبير في التعليم. ومع تكاليف الدراسة التي قد تصل في الجامعات الخاصة الأمريكية إلى مئات آلاف الدولارات، والاعتماد شبه الكامل على القروض الطلابية، تزداد التساؤلات حول ما إذا كانت الشهادة الجامعية لا تزال استثمارًا مجديًا في عالم يتغير بسرعة.
واقع الحال في إسرائيل
ورغم أن إسرائيل تختلف في نظامها التعليمي، فإن ظاهرة مشابهة تتزايد فيها أيضًا بحسب تقرير كالكاليست، الذي ينقل عن مركز تاوب ما يفيد بأن نحو 17.5% من أصحاب الشهادات الجامعية في البلاد يعملون في وظائف لا تتطلب اللقب الذي حصلوا عليه، وهي نسبة ترتفع في تخصصات العلوم الاجتماعية (24.7%) والعلوم الإنسانية (23%) والفنون (20%)، مقابل انخفاضها إلى 11.3% في الأحياء و12.2% في علم الحاسوب و3% في الطب.

وتشير دراسات بنك إسرائيل إلى أن العائد الاقتصادي من التعليم الأكاديمي يتآكل تدريجيًا، إذ يبلغ معدل “التحصيل الزائد” (الحصول على مستوى تعليمي أعلى مما تتطلبه الوظيفة) نحو 14%، فيما تصل نسبة عدم التطابق بين الدراسة والمهنة إلى 40%. ويُظهر البنك أن رواتب العاملين في وظائف أدنى من مستواهم الأكاديمي تقلّ بنحو 17% عن أولئك الذين يعملون في مجالات تتناسب مع تخصصاتهم.
ويخلص تقرير مؤسسة التدريب الأوروبية لعام 2024 إلى أن الاقتصاد الإسرائيلي أصبح “ثنائي الطبقات”: قطاع الهايتك المزدهر والمربح من جهة، وقطاعات تقليدية منخفضة الإنتاجية من جهة أخرى.
أخيرًا، ينصح الخبراء، بحسب تقرير كالكاليست، بضرورة تحليل سوق العمل مسبقًا، ومعرفة ما هي الوظائف التي يشغلها خريجو تخصص محدد فعليًا بعد التخرج، مع الحرص على اكتساب خبرة عملية أثناء الدراسة، سواء من خلال التدريب أو المشاريع المستقلة أو العمل الجزئي. كما يؤكد المختصون أن النجاح في سوق العمل الحديث يعتمد على تطوير مهارات مرنة، مثل استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، وإجادة اللغات، والتكيف السريع مع التغيرات التقنية.
مقالات ذات صلة: رشا جابر: من معلمة رياضيات في الطيبة إلى رئيسة فريق تطوير في شركة الهايتك العالمية Bolt











