تشير معطيات دائرة الإحصاء المركزية إلى انعطافة لافتة في الخريطة السكانية للبلاد. للمرة الأولى منذ سنوات طويلة، وفي عام 2023 تحديدًا، لم يعد معدل الولادة لدى المجتمع العربي في البلاد أعلى من نظيره لدى المجتمع اليهودي، حيث تراجع إلى مستويات أدنى. وذلك بعد سنوات كان فيها معدل الإنجاب لدى العرب مرتفعًا ومستقرًا نسبيًا مقارنة باليهود. وقد سجّل النصف الأول من العام الجاري (2025) أكبر انخفاض في معدلات الولادة العربية منذ عقد، وهو تراجع حاد مقارنة بمتوسط الأعوام الثلاثة الماضية.

المجتمع العربي: انخفاض تاريخي وتأثيرات الحرب
الباحثون يربطون هذا الانخفاض الكبير في عام 2025 بعدة عوامل. من بينها، دخول الجيش الإسرائيلي إلى رفح في مايو 2024 وتعاظم مشاعر عدم اليقين والاغتراب داخل المجتمع العربي اللذين دفعا كثيراً من الأزواج الشابة إلى تأجيل قرار الإنجاب أو العدول عنه. من زاوية أخرى، ساهم صعود نسب تشغيل النساء العربيات من 33% في عام 2014 إلى ما يقارب 50% في النصف الأول من 2025 في انخفاض الولادات، إذ أن دمج المرأة في سوق العمل يرتبط عادةً بانخفاض معلادت الإنجاب.
وعند الرجوع إلى الوراء، تظهر المعطيات أن النساء المسلمات اللواتي بلغ معدل إنجابهن 4.7 طفل لكل امرأة في عام 2000، تراجع معدل إنجابهن إلى 2.6 طفل في عام 2023. ولم يقتصر هذا الانخفاض على النساء المسلمات؛ إذ تراجع معدل الإنجاب لدى النساء المسيحيات من 2.55 طفلًا عام 2000 إلى 1.64 طفلًا عام 2023، فيما انخفض المعدل لدى النساء الدرزيات من 3.07 إلى 1.65 طفلًا في الفترة ذاتها. هذه الأرقام تبيّن أن معدلات الولادة لدى مكونات المجتمع العربي أصبحت أقرب إلى المعدلات الأوروبية المتدنية، وتكشف عن تغير بنيوي عميق في توجهات الإنجاب.
المجتمع الإسرائيلي عموماً: خصوبة مرتفعة بمقاييس عالمية
على المستوى العام، تظل إسرائيل صاحبة أعلى معدل خصوبة بين العديد من الدول المتقدمة. حيث أشارت بيانات البنك الدولي لعام 2023 أن معدل الإنجاب في إسرائيل بلغ 2.9 طفل لكل امرأة، أي ما يقارب ضعفي متوسط دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) البالغ 1.5 طفل.
وعند المقارنة مع مجموعة من الدول الأخرى، لاسيما في الشرق الأوسط إضافة إلى دول ذات كثافة سكانية مرتفعة، نجد أن معدل الإنجاب في دول مثل المكسيك سجل 1.9، وفي الهند 2، وإيران 1.7، ومصر 2.8، الأردن 2.6، سوريا 2.7، لبنان 2.2. وفي الجانب الآخر، تبقى كوريا الجنوبية في أدنى القائمة عالميًا بمعدل إنجاب يبلغ 0.7 طفل فقط لكل امرأة.
هذا المعدل المرتفع في إسرائيل ليس جديدًا. ففي عام 2000 بلغ معدل الخصوبة 2.95، وارتفع تدريجيًا حتى وصل إلى 3.11 في عام 2016، قبل أن ينخفض مجددًا إلى 2.85 في عام 2023. لكن اللافت أن الانخفاض جاء أساسًا من المجتمع العربي والفئات غير اليهودية، في حين ارتفعت خصوبة النساء اليهوديات من 2.88 طفلًا لكل امرأة عام 2000 إلى 3.1 أطفال في عام 2023.
التركيبة الداخلية: الحريديم والعلمانيين
داخل المجتمع اليهودي نفسه تظهر الفوارق. على سبيل المثال، تلد النساء اليهوديات العلمانيات نحو طفلين في المتوسط، في حين تبقى معدلات الإنجاب في المجتمع الحريدي في الصدارة بأرقام استثنائية رغم الانخفاض. حيث انخفض معدل الخصوبة لدى النساء الحريديات من 7.2 أطفال في عام 2000 إلى 6.5 في 2022، أو 6.2 بحسب تقديرات بديلة تستند إلى بيانات شاملة. هذا الانخفاض الطفيف نسبيًا يرتبط بقرارات تقليص مخصّصات الأطفال في عهد وزراء المالية سيلفان شالوم عام 2002 وبنيامين نتنياهو عام 2003، لكنه لم يكن كافيًا لتغيير الاتجاه العام.
التوقعات السكانية الصادرة عن دائرة الإحصاء المركزية تفيد أنه بحلول عام 2065 قد يشكل الحريديم 32% من مجموع السكان. مؤسسات بحثية داخل المجتمع الحريدي تقدّر أن النسبة ستكون أقل، بين 20% و25%، لكن حتى هذا السيناريو الأدنى يعني ثقلًا ديموغرافيًا هائلًا ستكون له تبعات اقتصادية مباشرة.
الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية
التباينات في معدلات الخصوبة بين المكونات المختلفة تنعكس مباشرة على الاقتصاد. معهد شوريش للبحوث الاقتصادية والاجتماعية يحذّر من أن استمرار الخصوبة العالية في قطاعات لا تعمل ولا تتلقى تعليمًا حديثًا سيجرّ إسرائيل نحو سيناريو “دولة العالم الثالث”. نصف الأطفال تقريبًا يتلقون تعليمًا بمستوى متدنٍ: سواء في المدارس الحريدية التي تفتقر لمناهج أساسية، أو في المدارس العربية التي تظهر نتائج ضعيفة في الامتحانات الدولية، أو في المدارس الرسمية في أطراف البلاد.
حين ننظر إلى بلدان مثل فنلندا، حيث المعدل 1.3 طفل لكل امرأة، نجد أن قلة الأطفال تسمح بإنفاق مضاعف على كل طالب، وهو ما يفسر جودة التعليم العالية مقارنة بإسرائيل. الاتجاه العالمي واضح، فكلما ارتفع مستوى التنمية ومشاركة النساء في سوق العمل، انخفض معدل الولادة. وفي ذلك، تظلّ إسرائيل استثناءً بين الدول المتقدمة بسبب الخصوبة المرتفعة بين اليهود المتدينين، الذين تتدنى نسبة مشاركتهم في سوق العمل.
وإن تكلفة ذلك هائلة على الاقتصاد، حيث تشير دراسة للدكتور غلعاد ملاخ من المعهد الإسرائيلي للديمقراطية إلى أن غياب الرجال الحريديم عن سوق العمل يكبّد الناتج المحلي خسائر سنوية بقيمة 54 مليار شيكل. وإذا استمرت الاتجاهات الحالية، فإن الخسارة قد تصل إلى 400 مليار شيكل سنويًا في عام 2065، مع خسائر تراكمية تصل إلى 6.7 تريليون شيكل.
مقالات ذات صلة: عدم اندماج العرب يكلف الاقتصاد الإسرائيلي حتى 40 مليار شاقل











