/
/
الإيمان لا غنى عنه لتعزيز جهود التنمية العالمية

الإيمان لا غنى عنه لتعزيز جهود التنمية العالمية

أيقون موقع وصلة Wasla
wasla brands

relegion

على مدار ما يقرب من عقدين من الزمن، عملت في مجال تتقاطع عنده التنمية، والصحة، والأمن. وفي اجتماعات المائدة المستديرة مع رؤساء الدول، وجلسات الإحاطة الطارئة، ومنتديات المانحين، لاحظت نمطا صارخا: غالبا ما تُـسـتَـبـعَـد القوى الفاعلة القائمة على الإيمان من الاستراتيجيات العالمية. وعندما تكون حاضرة إن حضرت على الإطلاق، تُـهَـمَّـش وتُـعامَل كشخصيات رمزية وليس بصفتها شركاء حقيقيين.

هذه ليست مجرد نقطة عمياء. إنه فشل استراتيجي.

لا يزال صُـنّاع السياسات العالمية الذين يضعون الأجندات الإنسانية والتنموية ينظرون إلى الإيمان الديني من خلال عدسات عفا عليها الزمن: تقليد غريب، أو عقبة تحول دون التقدم، أو خطر أمني. ولكن يبقى الإيمان واحدا من أعتى القوى المنظمة في العالم وأكثرها ديمومة. في كثير من المجتمعات الأكثر هشاشة أو المجتمعات التي تعاني من نقص الخدمات، تشكل القيادات الدينية المصدر الأكثر جدارة بالثقة (وأحيانا المصدر الوحيد) للسلطة والدعم. ومن أجل الوصول إلى أكثر الناس تهميشا، وتغيير حياة الناس على نطاق واسع، وضمان المشاركة الكاملة من جانب النساء في التنمية، لا يمكننا تجاهل الدين.

أدركت الحركات الاستبدادية والمتطرفة منذ فترة طويلة ما لا يزال كثيرون في مجال التنمية يقاومونه: المجتمعات الإيمانية قادرة على حشد الملايين. وإحجامنا عن المشاركة لم يتسبب في تحييد هذه القوة، بل سمح لآخرين بتحديدها.

لم أخجل قَـط عن الحديث عن عقيدتي الإسلامية، والتي يُـنـظَـر إليها غالبا على أنها مرئية وسياسية بطرق لا تتسنى لعقائد أخرى. قبل عشر سنوات، ألقيت محاضرة في TED بعنوان “ماذا يقول ديني حقا عن المرأة”، والتي شوهدت أكثر من خمسة ملايين مرة. وأظن أن صداها تردد بعيدا وطويلا لأنها عَـبَّـرَت عما يشعر به كثيرون لكنهم لا يصرحون به: الإيمان الديني سياسي بدرجة عميقة. فهو يشكل كيفية تعريف المجتمعات للسلطة والواجب والعدالة والنوع الاجتماعي. قد يخضع للتحريف لتبرير الأذى، ولكن من الممكن أيضا استعادته لتسهيل الشفاء.

عندما بدأت منظمة “صوت المرأة الليبية” (VLW)، وهي منظمة غير حكومية تركز على تعزيز الأمن الشامل، أدركت بسرعة أهمية تأطير الأمن والحقوق من منظور الإيمان. وبمجرد أن اعتمدت وزارة الشؤون الدينية النصوص الإسلامية في موادنا، بدأ الناس في الانخراط بشكل مختلف، وفتحت المدارس أبوابها، وأقمنا فعاليات في الساحات العامة. كان للنصوص الدينية صدى حيث لم يكن لـ”حديث التنمية” صدى. من خلال الاستفادة من النفوذ الثقافي والأخلاقي الذي يتمتع به الإسلام، قادت منظمة “صوت المرأة الليبية” واحدة من أكبر الحملات من أجل أمن المرأة في ليبيا، لتصل إلى خمسين ألف شخص بشكل مباشر. الإيمان غالبا هو لغة الثقة المشتركة. وفي السياقات الهشة، تكون الثقة هي العملة الأكثر قيمة.

من المؤكد أن بعض القوى الشريرة من الممكن أن تشوه الدين وتسيء استخدامه لنشر التطرف. لكن عددا كبيرا من الشبكات والمنظمات تسخر الإيمان كقوة للسلام والاستقرار والتقدم. كانت المنظمات المستلهمة من الدين عاكفة على تقديم الخدمات والنتائج في هدوء، حتى في قت حيث تكافح وكالات تنمية عديدة لإحداث الأثر. هذه المنظمات المستلهمة من الدين تكون غالبا أول من يدخل وآخر من يخرج، وتميل إلى التغلغل في المجتمعات ونيل ثقة الناس من مختلف مناحي الحياة. في البلدان الأفريقية المنخفضة والمتوسطة الدخل، على سبيل المثال، تعمل المنظمات المستلهمة من الدين على تقديم 30-70% من خدمات الرعاية الصحية.

بالإضافة إلى مكانتها الطيبة، تتمتع منظمات عديدة مستلهمة من الدين بموارد وفيرة وشبكات محلية ووطنية ودولية واسعة النطاق. تعمل منظمة Samaritan’s Purse، وهي واحدة من أكبر المنظمات المستلهمة من الدين في العالم، في أكثر من 100 دولة بميزانية سنوية تقارب المليار دولار. وفي عام 2024 وحده، قدمت 55 مليون لتر من المياه النظيفة ودرّبت أكثر من 174 ألف شخص على أفضل الممارسات في مجال الصرف الصحي والنظافة الشخصية.

وحتى خارج نطاق المنظمات الرسمية المستلهمة من الدين، من الممكن أن تعمل الشراكات الدينية على تغير النتائج. ففي الجزائر، دخلت وزارتا الصحة والشؤون الدينية في شراكة مع صندوق الأمم المتحدة للسكان لتدريب المرشدات الدينيات على التحدث صراحة عن صحة الأم وتنظيم الأسرة. وقد نجح ذلك. وأدى التعاون مع القيادات المحلية المقتدرة ثقافيا إلى تقليص الوصمة.

في وقت لاحق، أطلق صندوق الأمم المتحدة للسكان مبادرة لإعطاء الأئمة الجزائريين التوجيه والإرشاد حول كيفية إدراج معلومات حول الوقاية من فيروس نقص المناعة البشرية في خطبهم. كان هذا البرنامج فعالا بدرجة كبيرة، حتى أن الأئمة طلبوا مزيدا من المواد حول العنف القائم على النوع الاجتماعي، وحقوق النساء ومواضيع أخرى.

اضطلعت القيادات الدينية أيضا بدور حاسم أثناء جائحة كوفيد-19. فقد ساعد القساوسة، والكهنة، والأئمة في تعبئة المجتمعات المحلية نحو الالتزام باستراتيجيات الوقاية. وفي ولاية تينيسي، قررت أكثر من 80 كنيسة توحيد قواها مع مجموعات الصحة العامة في التصدي للمعلومات المضللة وتحسين فرص الحصول على اللقاح. وفي جمهورية الكونغو الديمقراطية، طلبت القيادات الدينية مزيدا من الدعم لقيادة الاستجابة المحلية للجائحة. عندما يثق الناس بالرسول، فإنهم ينفتحون على الرسالة.

تعمل القوى الفاعلة الدينية أيضا على تغيير المعايير. عملت المؤسسة الإسلامية للبيئة والعلوم البيئية على حشد آلاف المساجد خلال شهر رمضان للحد من النفايات. وساعدت شبكة الإيمان من أجل العمل أكثر من تسعين ألف فتاة في كينيا ونيجيريا وباكستان على الالتحاق بالمدارس من خلال العمل مع القيادات الدينية. كما قام مركز الوساطة بين الأديان في نيجيريا، بقيادة إمام وقس كانا عدوين ذات يوم، بتدريب أكثر من عشرين ألف من القيادات الدينية في مجال المصالحة.

هذه ليست مجرد حكايات. هذه نماذج قابلة للتطوير مبنية على الشرعية، والتقارب، والثقة ــ وهي ثلاث ركائز تستغرق وكالات تنمية عديدة عقودا في محاولة بنائها.

رأيت هذه الإمكانات مرة أخرى في عام 2022 عندما أطلقتُ مبادرة “من أجل ماما” (التي أصبحت الآن كل حمل)، وهي مبادرة خيرية قائمة على الإيمان الديني معنية بصحة الأمهات والرضع. من خلال إشراك القادة الدينيين كشركاء في جمع التبرعات والدعوة ــ وليس فقط باعتبارهم وكلاء توصيل ــ استفدنا من بنية أساسية قائمة على القيم لطالما أغفلها كثيرون من المانحين.

تعمل لجنة جورجتاون-لانسيت التي شُكلت مؤخرا حول الإيمان والثقة والصحة، والتي أنا عضو فيها، جنبا إلى جنب مع شركاء عالميين لدمج الإيمان في برامج الصحة العامة بطريقة أكثر دلالة، ولتوسيع منظور القادة في هذا الميدان. ولأن الإيمان هو العدسة التي يفسر الناس من خلالها العدالة، والالتزام، والسلطة الشرعية، فهو أحد أعظم قوى الشفاء لدى البشرية.

تدور التنمية العالمية، في جوهرها، حول بناء مستقبل مشترك حيث يكون لكل فرد صوت مسموع وإمكانية الوصول إلى الفرص. وهذا يعني أن استبعاد الإيمان والقيادات الدينية من هذا المجال يعرض الأهداف الطويلة الأجل للخطر. لم يعد السؤال هو ما إذا كان الإيمان مهما. بل ما إذا كنا نتمتع بالقدر الكافي من الشجاعة والتواضع لتوظيفه بشكل حقيقي هادف.

ترجمة: إبراهيم محمد علي    

 حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2025.
www.project-syndicate.org

مقالات مختارة