/
/
الاستثنائية الأميركية تودع الحياة

الاستثنائية الأميركية تودع الحياة

أيقون موقع وصلة Wasla
wasla brands
دونالد ترمب رفقة إيلون ماسك في البيض الأبيض- الصورة: ويكيميديا
دونالد ترمب رفقة إيلون ماسك في البيض الأبيض- الصورة: ويكيميديا

كانت مسيرة الاستثنائية الأميركية طويلة وناجحة. فعلى مقياس نمو نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي وغيره من المقاييس الإحصائية، تفوق الاقتصاد الأميركي على منافسيه من الاقتصادات المتقدمة منذ مطلع القرن الحالي.

الواقع أن أميركا موطن لشركات التكنولوجيا الفائقة الرائدة على مستوى العالم. وهي في طليعة الذكاء الاصطناعي. وقد استفاد المستثمرون من هذا الأداء المتفوق: فحتى أواخر عام 2024، حققت أسواق الأسهم الأميركية ذات رؤوس الأموال الضخمة متوسط عائد سنوي قدره 13% على مدار السنوات العشر السابقة، مقارنة بنحو 6% فقط للأسواق الأوروبية.

السؤال الذي يطرح نفسه هو ما إذا كانت سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترمب المدمرة تسببت الآن في إنهاء هذا التفوق الاقتصادي الاستثنائي. انعكس هذا الاحتمال على سوق الأسهم في أبريل/نيسان، عندما انخفض مؤشر ستاندرد آند بورز 500 بأكثر من 17% عن المستوى غير المسبوق الذي بلغه بعد تنصيب ترمب. وبينما استردت السوق منذ ذلك الحين معظم تلك الخسائر، فإن التقلبات لا تزال شديدة.

تصر أصوات مهمة، ليس فقط في الإدارة الأميركية، على أن هذه مجرد واحدة من ارتباكات السوق التي تحدث من وقت لآخر. ذلك أن منابع التفوق الاقتصادي الأميركي ــ هيمنة التكنولوجيا الفائقة، والبيئة الداعمة للأعمال، والأسواق المالية العميقة السائلة، وثقافة ريادة الأعمال ــ لا تزال سالمة. يقول المتفائلون، اتركوا الأمر للوقت وسوف تعمل سوق السندات، والانتخابات النصفية، والمحاكم على كبح جماح سياسات ترمب الشاذة.

هذه النظرة المفرطة في التفاؤل تستخف بقدرة الأحداث الأخيرة على تمزيق نسيج الاستثنائية الاقتصادية الأميركية، ولا تدرك مدى صعوبة إصلاح هذا النسيج. لا تنبع هيمنة أميركا على التكنولوجيا المتقدمة من قطاع الأعمال النابض بالحياة فحسب، بل أيضا من الأبحاث الأساسية التي تدار في الجامعات والحكومة، ومن التعاون الوثيق بين القطاعين العام والخاص. ليس من قبيل المصادفة أن نجد أن المرآب الذي نشأت فيه شركة هيوليت باكارد (Hewlett-Packard) كان في بالو ألتو بكاليفورنيا، بالقرب من جامعة ستانفورد. ولم يكن من قبيل المصادفة أيضا أن تنبعث شبكة الإنترنت من وكالة مشاريع البحوث الدفاعية الأميركية المتقدمة (DARPA)، بمساعدة من المؤسسة الوطنية للعلوم.

لا شك أن هجوم إدارة ترمب على تمويل الأبحاث الجامعية والحكومية يسحب البساط من تحت هذا التعاون. والباحثون الأميركيون الذين شهدوا خفض تمويلهم وتقليص حرياتهم الأكاديمية والفكرية تسعى دول أخرى بنشاط إلى استقطابهم وتوظيفهم.

ينطبق الأمر ذاته على عداء الإدارة الأميركية للهجرة. يعتمد تميز الجامعات ومراكز الابتكار في أميركا، مثل وادي السيليكون، على العلماء ورواد الأعمال الذين يأتون إلى الولايات المتحدة للدراسة ويقررون البقاء. وبالنظر إلى ما كُـشِـف عنه حول الطريقة التي تتعامل بها أميركا في عهد ترمب مع المهاجرين، فإنهم سيفكرون الآن مليا قبل اتخاذ القرار بالدراسة أو البقاء هناك.

كثيرون كتبوا عن الكيفية التي ستؤدي بها تعريفات ترمب إلى تعطيل سلاسل توريد الشركات الأميركية ورفع تكاليف الإنتاج. ومن المؤكد أن الشركات ستتأقلم، على سبيل المثال من خلال إعادة توطين بعض الإنتاج. لكن التكيف مع نظام ترمب التجاري التعسفي يعني أيضا تقديم خدمات غير رسمية وغير مشروعة مقابل تنازلات. لقد كشف رئيس “الصفقات” عن أن الولايات المتحدة هي مجتمع معاملات حيث تأتي أعلى العوائد من استخراج الريع والمحسوبية، وليس من المبادرة والإبداع.

إن بيئة الأعمال التي يكون الوصول فيها إلى المكتب البيضاوي المفتاح إلى النجاح سوف تُـفـضي في الأرجح إلى زيادة تَـرَكُّـز السوق، حيث لا يتمكن سوى أشباه إيلون ماسك على مستوى العالم من الوصول. الواقع أن الولايات المتحدة شهدت بالفعل كيف كانت زيادة تركز السوق مصحوبة بزيادة في هوامش الأسعار عن التكاليف، وانخفاض معدلات دخول الشركات، وتراجع معدلات إعادة توزيع الوظائف، والفجوة المتنامية بين الشركات الرائدة والمتأخرة. وعاجلا أو آجلا، سيصبح نمو الإنتاجية الضحية التالية.

في نهاية المطاف، يعتمد النمو الاقتصادي على سيادة القانون، كما أوعز أنصار ما يسمى الآن على نحو لا يخلو من مُـفارَقة إجماع واشنطن، إلى البلدان النامية طوال عقود من الزمن. يعتمد هذا بدوره على الفصل بين السلطات وعلى نظام من الضوابط والتوازنات التي تمنع الممارسة التعسفية والمتقلبة من جانب السلطة التنفيذية.

كان كل هذا مفهوما من قِـبَـل واضعي الدستور الأميركي. لكن الأحداث السياسية الأخيرة في الولايات المتحدة أظهرت أن الضمانات الدستورية والقانونية أضعف مما كان يُفترض فيها سابقا. فالرئيس الذي يسعى إلى تكديس السلطة قادر على استخدام الأوامر التنفيذية لتجاوز قرارات الإنفاق التي يتخذها الكونجرس، والقرارات التنظيمية التي تصدرها وكالات حكومية يُفترض أنها مستقلة. وهو قادر على فصل وإقالة مسؤولين حكوميين مستقلين متى شاء. وبوسعه إرضاخ أعضاء الكونغرس الضعفاء من خلال تهديدهم بترشيح منافسين لهم في الانتخابات التمهيدية.

مثل هذا الرئيس من الممكن أيضا أن يتجاهل أحكام المحاكم. وإذا هدَّدت سوق السندات بسوء التصرف، فبوسعه أن يستمد الدعم من الاحتياطي الفيدرالي. أما عن التأثير التأديبي الذي تفرضه صناديق الاقتراع، فقد يقرر رفض نتائج انتخابات حرة نزيهة.

في هذه البيئة، لا حقوق الملكية ولا العقود آمنة. وكما تعلمنا من أجيال من علماء السياسة، فإن حقوق الملكية الآمنة هي المحدد الأساسي للاستثمار، في حين يشكل إنفاذ العقود على نحو جدير بالثقة أساس التجارة والتبادل التجاري.

يقول بعض المعلقين إن الرئيس الأميركي القادم سيعيد عقارب الساعة إلى الوراء إلى أيام ما قبل ترمب، لتصبح حقوق الملكية الآمنة، وإنفاذ العقود، والمساواة في ظل القانون من حقائق الحياة الأميركية مرة أخرى. لكن بعض الدروس، بمجرد تعلمها، لا يمكن نسيانها بسهولة. فكثير من المستثمرين، مثلهم كمثل قطط المنازل، لن يقفزوا إلى موقد ساخن مرتين.

 ترجمة: إبراهيم محمد علي

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2025.
www.project-syndicate.org

مقالات مختارة