
زودتنا فوضى تعريفات دونالد ترمب الجمركية ببعض الدروس القيّمة حول الاقتصاد الأميركي وترمب ذاته. وبتطبيق هذه الدروس على استجاباتهما للتعريفات الجمركية، يصبح بوسع البلدان تقويض قدرة ترمب على التنمر عليها وقهرها.
يتمثل أحد الدروس المستفادة في أن الاقتصاد الأميركي أكثر هشاشة مما كان متوقعا، وذلك بسبب الارتباط القوي بين الاقتصاد الحقيقي والأسواق المالية. فسرعان ما امتدت المخاوف بشأن متاعب المستقبل في التجارة والإنتاج إلى أسواق الأسهم والسندات والعملات. تتمثل نقطة الضعف الرئيسية في النظام المالي الأميركي في أن الانخفاضات الكبيرة في سوق الأسهم قد تجبر صناديق التحوط العالية الاستدانة وغير الخاضعة للتنظيم إلى حد كبير على التدافع إلى السيولة، فيؤدي هذا إلى مبيعات ضخمة للأصول، وخاصة السندات الحكومية، بأسعار بخسة. واحتمال الهلع هذا بحد ذاته هو ما يجعل الاقتصاد الأميركي أكثر عرضة للخطر من غيره.
يتمثل درس ثان في أن كلمات ترمب الطنانة تخفي ضعفا أساسيا. فعندما هددت تعريفاته الجمركية المصالح التجارية لأصدقائه من أصحاب المليارات، استسلم.
السؤال الآن هو كيف قد تتمكن بلدان أخرى من استغلال نقطتي الضعف هاتين. من المؤكد أن الإجابة لا تتمثل في سفر المسؤولين إلى واشنطن حاملين قبعاتهم في أيديهم، كما فعل ممثلو حوالي 75 دولة، وفقا لبعض التقارير. هذا ليس مهينا فحسب، بل غير فعّال أيضا، لأنه يعزز شعور ترمب ذاته بالقوة ويسمح له بتأليب مختلف الدول ضد بعضها بعضا. علاوة على ذلك، عندما يشتم ترمب رائحة الضعف، فإنه يميل إلى إضافة مزيد من الشروط المرهقة إلى أي صفقة. الأسوأ من ذلك أن مثل هذه الصفقات لا تساوي حتى الورق الذي تُـكـتَـب عليه.
تتمثل استراتيجية أفضل كثيرا في ممارسة أقصى قدر من الضغط على الاقتصاد الأميركي، الأمر الذي سيكشف عن نقاط ضعفه الأساسية، ويخيف أصدقاء ترمب من أصحاب المليارات، ويجبره في النهاية على أن يغض الطرف ويتراجع (مرة أخرى). ومن الممكن تحقيق ذلك برفض أي تفاوض وملاحقة أعمال انتقامية متناسبة. إذا تبنى عدد كاف من الدول مثل هذا النهج، ستجد أميركا نفسها معزولة. ولأن الولايات المتحدة تمثل 15% فقط من التجارة العالمية، فإن أولئك الذين يمثلون الـنسبة المتبقية (85%) بوسعهم أن يكسبوا كثيرا بتنسيق استجابتهم.
يشكك بعض الاقتصاديين في الحكمة من الرد الانتقامي. تقول حجة التجارة الحرة المعتادة إنه بما أن التعريفات الجمركية تضر بالبلد الذي يطبقها، فلا ينبغي لبلدان أخرى أن تسير على خطى المعتدي في طريق إيذاء النفس. لكن هذه الحجة لا تضع في الحسبان اقتصاد التعريفات الانتقامية السياسي. فبفرض تعريفات جمركية مُـقابِـلة على السلع الأميركية، قد تُـلحِق البلدان الأذى بقطاع التصدير الأميركي، فتخلق بالتالي جماعة ضغط محلية تسعى إلى إنهاء العدوان. في غياب مثل هذه القوة الـموازِنة، ستستولي جماعة الضغط المؤيدة لاستبدال الواردات في الولايات المتحدة (الصناعات الـمُـنـتِجة للسلع التي تستوردها البلاد حاليا) على ذهن ترمب.
برزت نسخة من هذه الحجة السياسية الاقتصادية بوضوح في المفاوضات التجارية المتعاقبة طوال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. في التفاوض على خفض التعريفات الجمركية، استخدمت الدول حجة المعاملة بالمثل: سنخفض تعريفاتنا الجمركية إذا فعل الآخرون حول طاولة المفاوضات المثل. وبهذا، خلقوا جماعة ضغط محلية من المصدرين المؤيدين لخفض التعريفات الجمركية، وساعدوا في التغلب على المعارضة من جانب قطاع بدائل الواردات. كان هذا النهج ناجحا للغاية في خفض التعريفات الجمركية في مختلف أنحاء العالم، ولا يوجد سبب يمنع كونه ناجحا بذات القدر اليوم.
إن سياسة التدابير المضادة الانتقامية المشتركة من شأنها أن تزيد من الضغوط على القطاعات الاستراتيجية المعتمدة على التصدير مثل صناعات التكنولوجيا الفائقة والخدمات الرقمية، فتزيد بالتالي من احتمالات نجاح المعارضة المحلية لسياسة ترمب الجمركية. وهي أيضا كفيلة بتعظيم الضرر الذي يلحق بنظام الإنتاج والتجارة في الولايات المتحدة، فتؤدي بذلك إلى زعزعة استقرار الأسواق المالية ــ العامل الرئيسي الذي جعل ترمب يتراجع في المرة الأولى.
بطبيعة الحال، ستكون صياغة حجة تستند إلى المبادئ لتوضيح ضرورة تطبيق التدابير المضادة مهمة مختلفة تماما عن تنظيم مثل هذ الاستجابة. وهنا ينطوي الأمر على مشكلة كلاسيكية في العمل الجماعي، لأن عددا قليلا من البلدان على استعداد للمخاطرة والدعوة إلى ردٍ عقابي قاس. ولكن بمجرد أن يشارك عدد كاف من الدول في هذا الجهد، ستتلاشى قدرة إدارة ترمب على إنزال مثل هذه العقوبات. ذلك أن التكلفة التي سيتعين على الولايات المتحدة تحملها لمعاقبة العالم بأسره ستكون باهظة.
على النقيض من ذلك، إذا فشلت الدول الأخرى في التعاون، فإنها بذلك تعطي ترمب فعليا العصا التي سيضربها بها. لماذا ينبغي لبلد يمثل 15% من التجارة العالمية أن يكون قادرا على التنمر على ــ وإخضاع ــ البلدان التي تمثل بقية التجارة العالمية (85%)؟
لحل مشكلة العمل الجماعي هذه، نحتاج إلى قيادة سياسية. وقد أظهرت الصين بالفعل الطريق من خلال فرض تعريفات مُـقابِـلة على السلع الأميركية. وإذا انضم إليها الاتحاد الأوروبي، فسوف يصبح لدينا زعيمان كبيران بالقدر الكافي لإلحاق الضرر بالولايات المتحدة بدرجة كبيرة، وسيكون لدى الآخرين الحافز للانضمام إلى التحالف. بهذا، تزداد عزلة إدارة ترمب، ويتعاظم الضرر الذي يلحق بالاقتصاد الأميركي، وينحسر الضرر الذي يلحق ببقية العالم. ثم يتراجع ترمب مرة أخرى.
ترجمة: مايسة كامل
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2025.
www.project-syndicate.org











