
في أزقة البلدة القديمة بمدينة رام الله، وبين رائحة الخشب وصوت الأدوات المعدنية، يعمل الشاب شحادة شلالدة في مشغله الصغير على صناعة الكمان والفيولا والتشيلو. في هذا المكان البسيط تولد موسيقى جديدة، تصنعها يد فلسطينية ماهرة، استطاعت أن تصل بجودتها إلى معاهد محلية وعواصم عالمية.
بدأ شلالدة رحلته الموسيقية في سن الخامسة عشرة مع جمعية الكمنجاتي، حيث تعلّم العزف على العود، لكن شغفه سرعان ما اتجه إلى آلة الكمان التي أسرته بانحناءاتها وصوتها الدافئ. بعد عام واحد، ترك العود وبدأ رحلة جديدة مع الكمان، لتصبح بوابته الأولى نحو عالم صناعة الآلات الموسيقية.
البدايات مع الصيانة والصناعة
خلال العزف، لاحظ شلالدة زيارات مصلّحي آلات موسيقية من بلجيكا وفرنسا وإيطاليا، الذين كانت الجمعية تدعوهم لترميم الآلات. هنا بدأ اهتمامه بالتصنيع اليدوي، فرافق المصلحين، وشارك في إصلاح أجزاء بسيطة، حتى لاحظ مؤسس الجمعية رمزي أبو رضوان موهبته وشغفه، وشجعه على تعلّم حرفة الصناعة والصيانة بشكل مهني، ليكون حاضرًا دائمًا في الجمعية بدلًا من الاعتماد على خبراء خارجيين.

إيطاليا نقطة التحول في حياة شلالدة
في المرحلة التالية، سافر شحادة إلى إيطاليا بدعوة من أحد أساتذته، وأقام في فلورنسا ونابولي ثلاثة أشهر، وصنع أول كمانين، لتبدأ رحلته الحقيقية في صناعة الآلات الموسيقية، بدلًا من الاكتفاء بالصيانة. لاحقًا، نصحه أحد الأساتذة بإكمال تعليمه في جامعة ” نيوارك” البريطانية المتخصصة في صناعة وترميم الكمان، وحصل على منحة من مؤسسة عبد المحسن القطّان وجمعية الكمنجاتي، وتخرج عام 2012 بشهادة بكالوريوس في صناعة وترميم الكمان، ليعود بعد ذلك إلى فلسطين ويواصل صناعة آلات الكمنجة: الكمان، الفيولا، التشيللو، والكونترباص.

ولادة آلة جديدة
يصف شلالدة لحظة اكتمال الآلة بأنها “تشبه ولادة طفل جديد”. كل آلة يصنعها يدوياً من الصفر، بدءًا من رسم المخططات وصنع القوالب الأساسية، إلى الطلاء باستخدام مواد عضوية يجهزها بنفسه. ويقول:
“المتعة تكمن في خلق شيء من الصفر، يستخدمه العازف لإسعاد الآخرين، وتوريثه جيلًا بعد جيل”.
الحرفة تتطلب عزلة، صبرًا، وتركيزًا طويلين، مع معرفة بالعلوم الموسيقية، الصوتيات، وفهم طبيعة المواد مثل نوع الخشب، “فإن نوع الخشب هو الذي يحدد الطريقة المثلى للتعامل مع كل قطعة”، كما يوضح شلالدة. شغفه يظهر حين يسمع صوت الآلة ويكوّن فكرة عن صناعتها وأجزائها الداخلية.
بين القيقب الأوروبي واسم فلسطين: صعوبات صانع الكمان
الحصول على الأخشاب يمثل تحديًا كبيرًا؛ يستورد شلالدة أخشاب القيقب والسبروس من أوروبا، خاصة من جبال الألب الباردة، حيث تنمو الأشجار ببطء وتكون كثافتها أعلى لتحمل البرد والريح، وتستغرق فترة تجفيفها أحيانًا أكثر من أربع سنوات قبل الاستعمال.
على الصعيد العالمي، رغم جودة آلاته العالية وبيعها في دول أوروبية وأمريكا، يواجه صعوبة في التسويق بسبب عدم شهرة اسم فلسطين في صناعة الكمان، ويذكر شلالدة أن بعض التجار يحاولون شراء آلاته بأسعار منخفضة تصل إلى نصف قيمتها، وهو يرفض ذلك حفاظًا على الجودة العالية، حيث يستغرق صنع كل آلة نحو ثلاثة أشهر، مع الالتزام بالصيانة الاحترافية. زبائنه المحليون يتركزون في الضفة الغربية والداخل الفلسطيني، إلى جانب عمله مع جمعية الكمنجاتي.

صناعة الكمان في فلسطين… جودة تتحدى الظروف
يشعر شلالدة بالفخر حين يكتب على كل آلة موسيقية يصنعها في مشغله عبارة “صُنع في فلسطين”، لأنه يعيش الواقع الفلسطيني ويواجه الصعوبات اليومية في التنقل وشراء المواد الخام، ونجاحه يثبت أن الجودة العالمية ممكنة رغم الظروف الصعبة، وأن الفلسطينيين ليسوا مجرد مستهلكين، بل منتجون بوسعهم تقديم إبداعات مميزة رغم كل التحديات السياسية والاقتصادية.
أثر الحرب على العزف والتصنيع والترميم..
رغم صعوبة الظروف وتزايد القيود على الحركة، لا تزال الموسيقى تجد طريقها في حياة الفلسطينيين. يقول شلالدة:
“يتواصل معي عدد من الموسيقيين من مختلف المناطق، من الضفة الغربية والداخل الفلسطيني وحتى من غزة، لإصلاح آلاتهم الموسيقية، لكن مع اندلاع الحرب توقّف هذا الأمر تمامًا. فالحواجز العسكرية الإسرائيلية ازدادت، والطريق التي كانت تستغرق ساعة واحدة بين منطقة وأخرى باتت تحتاج إلى ساعتين وربما أكثر، وهو ما جعل وصول الموسيقيين إلى رام الله شبه مستحيل”.
ويضيف: “أعمل اليوم على صناعة الآلات الموسيقية للمعاهد المحلية مثل الكمنجاتي ومعهد إدوارد سعيد، وأحيانًا لتصديرها إلى الخارج، وخصوصًا إلى الولايات المتحدة. في ظل الحرب، توقّف كثير من الموسيقيين المحليين عن العزف، لكنّي أرى أن الموسيقى لم تكن يومًا ترفًا، بل فعل صمود ومقاومة بحد ذاته. فهي اللغة التي نعبّر بها عن وجعنا، وعن تمسّكنا بالحياة والوطن رغم كل شيء”.

شحادة شلالدة دوليا
شارك شحادة في مسابقة كريمونا لصناعة الآلات الموسيقية بإيطاليا، وأحرز المرتبة العشرين بين 400 صانع، وكان الفلسطيني والعربي الوحيد بينهم. وفي عام 2023، حصل على جائزة التميز في القطاع الثقافي الفلسطيني من مؤسسة التعاون، تقديرًا لإبداعه وإصراره على تطوير الفن النادر في فلسطين.
يشدد شلالدة على أن المشاركة في المسابقات والمعارض تعطي الصنّاع فرصة لتبادل الخبرات، وتعزز حضور اسم فلسطين عالميًا في صناعة الآلات الموسيقية، مؤكّدًا أن الحرفة الفلسطينية قادرة على مواجهة التحديات وتحقيق الجودة العالمية رغم كل الصعاب.











