نشر موقع بلومبرغ، والذي يعتبر من أهم المنصات الصحفية الاقتصادية في العالم، تقريراً خاصا عرض فيه قصة نجاح شركة “هات” للإرساليات وتحولها إلى أهم لاعب في هذا المجال في المجتمع العربي، وإلى لاعب مركزي في سوق شركات التوصيلات والإرساليات في إسرائيل بشكل عام. التقرير يُسلط الضوء على سر نجاح الشركة التي عرفت كيف تواجه أكبر تحديين في البلدات العربية فنجحت في الوصول إلى قلوب وجيوب زبائنها. فيما يلي الترجمة الكاملة للتقرير.

من أجل إطلاق تطبيق ناجح لتوصيل الطعام ينبغي تجاوز سلسلة من التحديات، سواء كانت تتعلق بعبوات الطعام التي تتسرب منها السوائل، أو وصول الطعام وهو ليس ساخنًا كما ينبغي، أو تكلفة التوصيل التي قد تتجاوز أحيانًا سعر الطعام المطلوب نفسه. لكن هذه التحديات بسيطة جدًا إذا ما قارناها بما تواجهه الشركة الناشئة “هات” HAAT التي أسسها المبادر الشاب د. حسن عباسي، فالتحدي الأكبر هو عدم وجود عناوين رسمية لغالبية المنازل في المجتمع العربي.
ففي عشرات من البلدات العربية المهمشة في شمال البلاد، حيث تعمل شركة هات لتوصيل الطعام بنموذج عمل يشبه ما تعتمده شركة DoorDash الأمريكية للتوصيل، لا توجد دائمًا أسماء للشوارع أو أرقام للشقق. وغالبًا ما يعتمد الغرباء عن المنطقة على التوجيهات التي يقدمها السكان مثل: “اذهب إلى الدوّار الأول، انعطف يمينًا عند المخبز، تابع السير بعد المسجد حتى تصل إلى البيت ذي البوابة الخضراء”، وهو ما يُربِك عادة سائقي التوصيل. وهذا أحد الأسباب التي جعلت شركات التوصيل الكبرى تتجنب إطلاق خدماتها في هذه البلدات، التي أصبح شعار شركة هات الأحمر والأصفر مألوفًا في كل مكان فيها تقريبًا.

لا يوجد خريطة؟ نصنع خريطة!
لحل مشكلة عدم وجود عناوين، قامت شركة هات بابتكار نظام خرائط خاص بها يشمل كل بيت في المناطق التي تعمل فيها. اعتمدت الشركة على بيانات حقيقية جمعتها من ملايين عمليات التوصيل السابقة، وحددت من خلالها نقاط الدخول الدقيقة لكل منزل، مثل البوابة أو الطريق المؤدي إليه. وهذه المعلومات أصبحت تُرسل مباشرة إلى سائق الدراجة النارية عبر التطبيق، ليعرف بالضبط إلى أين يتجه. وبهذه الطريقة، أصبحت البيتزا تصل بسهولة إلى المناطق التي كان من الصعب الوصول إليها سابقًا، وتبقى ساخنة عند وصولها.
بالإضافة إلى مشكلة العناوين، لا يمتلك الكثير من زبائن الشركة وسيلة للدفع الإلكتروني أو حسابات بنكية. فبعضهم من الشباب الصغار بالسنّ الذين لم يتعاملوا مع البنوك من قبل، وبعضهم عمّال يتقاضون أجورهم نقدًا. وقد حلّت الشركة هذه المشكلة، من خلال الدفع نقدًا (كاش) لسائق التوصيل عند تسليم الطعام. ويمكن للزبائن أيضًا أن يدفعوا لسائق التوصيل مبلغًا إضافيًا لتعبئة محافظهم الرقمية الخاصة بزبائن هات، ما يتيح لهم الطلب من المطاعم عبر تطبيق هات، ويمكن حتّى أن يطلبوا من مواقع مثل أمازون، وإيكيا، وأن يشتروا اشتراكًا في نتفليكس، وشركات أخرى.

منذ تأسيسها عام 2020، توسعت شركة هات بشكل متسارع. المشوار بدأ مع 9 مطاعم فقط والآن تتعامل هات مع 3000 مطعم. الطاقم الأولى ضم 4 موظفين والآن تُشغّل الشركة 300 موظف، ومن العمل مع 5 مُرسلين (أو كباتن كما تُسميهم الشركة) إلى 5000 مُرسل. يقول حسن عباسي إن “هات” حققت مبيعات إجمالية تقارب 250 مليون دولار، وجمعت تمويلًا بقيمة 18 مليون دولار من مجموعة من أبرز المستثمرين في البلاد. والآن تخطط الشركة للتوسع إلى عدد من الدول في أوروبا وأفريقيا التي تتشابه مع المجتمع العربي في البلاد، أي إلى أماكن يعيش فيها زبائن يملكون دخلاً كافٍ لينفقونه على الطعام الجاهز وهواتف نقالة، لكن وصولهم إلى الخدمات البنكية الإلكترونية محدود، أو أن البنية التحتية في مناطقهم تعاني من مشاكل مشابهة للمناطق العربية مثل غياب العناوين في الشوارع.
يقول عباسي (35 عامًا)، وهو جالس أمام لوح أبيض مليئ بالرسومات في مكتبه المزدحم في أم الفحم: “هناك مساحات شاسعة في العديد من البلدان، حتى الغنية منها مثل ألمانيا، حيث يظل النقد (الكاش) هو الملك”. ويضيف: “اتضح أننا لسنا حالة استثنائية. هناك إمكانات كبيرة تنتظرنا في الخارج”.
ام الفحم- زوريخ – أم الفحم
حسن عباسي هو الابن الرابع من خمسة أولاد، لوالد يعمل استاذ مدرسة ووالدة ربة منزل. بدأ اهتمامه بالحواسيب عندما كان مراهقًا، الأمر الذي أثار استياء والده. فبعد أن أظهر موهبة استثنائية في الرياضيات في طفولته، أراد والداه أن يصبح طبيبًا. لكن، عندما قرر حسن في سنّ السادسة عشرة أنه لا يريد أن يصبح طبيبًا، قطع والداه المصروف عنه. يقول عباسي متذكرًا كلام والده: “بدكش طب، فش ولا شيكل”. ثم يضيف: “كان ذلك أعظم معروف قدمه لي في حياته”.
خلال سنوات المراهقة، عمل عباسي في مطعم “ماكدونالدز” في بلدة يهودية تبعد نصف ساعة، وادخر أمواله حتى تمكن من التسجيل في معهد التخنيون لدراسة الرياضيات والعلوم. وبعدها نال درجة الماجستير والدكتوراه، وعمل في شركة “إنتل” و”IBM” و”جوجل”. وأثناء وجوده في جوجل، عمل لفترة في مكتب الشركة بمدينة زيورخ في سويسرا، المدينة التي يمكن أن يصل فيها أي شيء إلى باب منزلك بكبسة زر.

“طردته عندما جاء ليعرض عليّ فكرته”
عندما عاد عباسي مع أسرته الصغيرة إلى مدينة أم الفحم، سرعان ما أدرك أن المطاعم المحلية لا تقدم خدمات التوصيل المريحة التي اعتادوا عليها في أوروبا، فبدأ يستغل وقت فراغه للتخطيط للمشروع الذي سيصبح لاحقًا تطبيق هات. وقبل إطلاق التطبيق بعام، بدأ عباسي يتحدث مع أصحاب المطاعم في مدينته حول فكرة نشر قوائم الطعام على الإنترنت والدفع مقابل خدمات التوصيل إلى المنازل. كان ذلك في عام 2019، وظنّ الذين تحدّث معهم أنّه فقد عقله. يقول محمد أبو ماجد، صاحب مطعم “الطازج” في أم الفحم: “ضحكنا عليه. طردته عندما جاء ليعرض عليّ فكرته. ثم جاءت فترة كورونا، وأصبح تطبيقه اليوم مسؤولًا عن نصف مبيعاتنا”.
رغم نمو شركة “هات”، واجه عباسي صعوبة في إيجاد مستثمرين، إذ اكتشف أن معظم رجال الأعمال في المجتمع العربي في البلاد لا يبدون اهتمامًا بمشروعه. يقول عباسي، الذي يتحدث بثقة هادئة سواء بالإنجليزية أو العبرية أو العربية: “هم يستثمرون في العقارات، لا في الشركات الناشئة”. ومن خلال سلسلة من المعارف، وصل عباسي إلى مستثمرين يهود في تل أبيب، حيث يوجد اهتمام أكبر بالاستثمار في التكنولوجيا. وقد أُعجب هؤلاء بفكرته، وتمّ جمع التمويل بسرعة، كما يقول. يصفه السير رونالد كوهن، المؤسس المشارك لشركة “Apax Partners”، والتي تمتلك ذراعها الاستثمارية 9% من هات وتساعدها في جمع 20 مليون دولار من أجل التوسع المخطط له، بأنه “أحد أفضل رواد الأعمال الذين التقيت بهم في حياتي”.

اليوم، وبعد أن أصبح عباسي متزوجًا وأبًا لثلاثة أطفال، بات يُعتبر نموذجًا يُحتذى به في أوساط رجال الأعمال العرب في البلاد، فهو رائد أعمال، وصاحب شركة تقدّم خدماتها للفئات المهمشة، وكل ذلك وهو ما يزال في الثلاثينيات من عمره. حتى أنه ظهر في كتاب مدرسي جديد يستخدمه الطلاب العرب لتعلّم اللغة العبرية.
ومع ذلك، فإنّ هويته كفلسطيني مسلم يحمل الجنسية الإسرائيلية تمثل تعقيدًا ليس بالهين. فمنذ هجوم السابع من أكتوبر والحرب الوحشية على غزة التي أعقبته، أصبحت العلاقات بين اليهود والعرب أكثر توترًا من المعتاد. وعندما حاول عباسي التوسّع خارج البلاد لأول مرّة، اختار المغرب، لكنّ منافسي شركته هناك من الشركات المغربية دعوا الشعب المغربي إلى مقاطعته لأنه من إسرائيل، متجاهلين كونه فلسطينيا عربيًا مسلمًا مثلهم. واضطر في النهاية إلى التراجع عن التوسّع هناك.

ويقول عباسي إن خطوته الدولية التالية لن تكون في دولة مسلمة، مشيرًا إلى أن اليونان وألمانيا هما من بين الأسواق المحتملة التي يخطط لاستهدافها. ويرى عباسي في الشركات التي سبقته، مثل Rappi في أمريكا اللاتينية وGrab في جنوب شرق آسيا، دليلًا على وجود سوق عالمي متنامٍ لخدمات التوصيل إلى المنازل بمختلف أشكالها، من الطعام إلى البقالة.
يقول رونالد كوهين، إن ريادة الأعمال العربية ضرورية لدمج المجتمع العربي في الاقتصاد الإسرائيلي. ويضيف: “يجب تكرار تجربة حسن (عباسي) آلاف المرات خلال السنوات القليلة المقبلة”، مشيرًا إلى أن الاقتصاد الإسرائيلي لا يمكن أن تزدهر ما لم يكون العرب جزءًا منه.
يقول عباسي: “هناك الكثير من الفجوات بين المجتمع العربي واليهودي، ونحن نساعد على ردمها”. ويضيف أن فريق عمل “هات” يضم مسيحيين ومسلمين ودروزًا ويهودًا. ويتابع: “بالطبع هناك من يعارض هذا النوع من التعاون، لكننا نرى أن تداخل الثقافات أمر رائع”.
المقال منشور في وصلة بإذن خاص من بلومبرغ











