
“على الأقل لا يوجد عنصرية عندما يتعلق الأمر بطلبات التوصيل إلى البيت.”، يقول حسن عباسي، مدير ومؤسس شركة التوصيل HAAT. “قبل أن نُطلق خدماتنا في بعض المدن كنا مترددين قليلاً، لكننا تفاجأنا أنّ لا أحد يهتم إن كنت يهودياً أو عربياً عندما يطلب طعاماً أو منتجات من السوبرماركت. كل ما يريده هو خدمة جيدة”.
في الوقت الذي يتحدث فيه الجميع عن “وولت”، عملاقة التوصيل الفنلندية التي اشترتها شركة “دورداش” DoorDash الأمريكية، ظهرت خلال السنوات الخمس الأخيرة منافسة مثيرة للاهتمام. منافسة لم تبدأ من المدن الكبرى، الغنية والمترفة، بل من الأطراف، من الهوامش. شركة وجدت حلولاً لمشاكل لا تجد لها حلًا في عالم التوصيل، مثل منازل بلا عناوين، متاجر بلا قوائم طعام، أو زبائن يتعاملون بالنقد (الكاش) فقط. شركة عربية بالكامل، لكنها تعمل بامتياز في البلاد.
“هات” دخلت هذا الشهر للمرة الأولى إلى منطقة تنشط فيها وولت بالفعل، وهي مدينة حيفا. وهذه فرصة جيدة للتوقف لحظة ومحاولة فهم كيف أن شركة صغيرة من أم الفحم، أُسست أصلاً على يد دكتور من التخنيون، تحولت إلى واحدة من أكبر الشركات في البلاد في مجال يدمج بين الطعام والتكنولوجيا، مع مئات آلاف الزبائن وطموحات للتوسع إلى الخارج، كل ذلك في ظل التحديات التي تواجه المجتمع العربي في البلاد.

الدكتور حسن عباسي، الذي لا يتجاوز عمره 36 عامًا، كان يسير في المسار السريع لتحقيق حلم كل أم، سواء كانت عربية أو يهودية. بعد أن أنهى اللقب الأول في علوم الحاسوب والرياضيات في التخنيون، قرر مواصلة الدراسة لنيل اللقب الثاني، ثم الدكتوراه، وأنهى عقدًا كاملًا في المؤسسة الحيفاوية، حيث بدأ أيضًا يُدرّس ويُحاضر بنفسه. بعد التخنيون، بدأ العمل في شركات مثل إنتل، وآي بي إم، وجوجل، في تل أبيب وحتى في زيورخ.
ثم، ومع طفل صغير وآخر في الطريق (وفي هذه الأيام هو وزوجته ينتظران طفلهما الرابع)، عاد إلى البيت، ليكون أقرب إلى والدته، في مدينة طفولته أم الفحم. ذات مساءٍ، طلب عباسي أحد أكثر الأمور الأساسية التي يمكن لعائلة شابة أن تطلبها، وهي بيتزا، ليتم توصيلها إلى بيته. بعد ثلاث ساعات من طلبه، لم تصل البيتزا إلى باب بيته، فأدرك أن هناك مشكلة، وأن بإمكانه أن يكون هو الحل.
“رأيت الكثير من التحديات”، يتذكر عباسي. “أماكن دون عناوين، أشخاص يدفعون نقدًا، مطاعم بلا قوائم طعام، وبلا واي فاي أو منصة رقمية، وفهمت أن هناك حاجة لشخص لديه معرفة ونظرة تكنولوجية لحل كل هذا”، يقول عباسي، ويضيف: “بحثت حولي، بحثت وبحثت، وفي النهاية وجدت نفسي”.
أسس عباسي الشركة في عام 2018 وبدأت بتقديم خدمات التوصيل في نهاية عام 2019، بداية في أم الفحم فقط، داخل مجتمع تحتاج فيه لإيجاد عنوان دقيق إلى اتباع تعليمات مثل “بعد 100 متر من السوبر، هناك شجرة، بعدها انعطف يسارًا”، وفي دولة تتوجس من كل ما تنبع منه رائحة الاستقلال العربي.
الأطراف أولًا
“كاستراتيجية، قررنا أن نبحث عن الأماكن التي يمكننا أن نُقدّم لها قيمة، فبدأنا في الشمال. لأنه عندما بدأنا، كان الشمال فارغًا، الجميع كان يتركز في مركز البلاد. لذلك، لم نصل فقط إلى أرضٍ جديدة، بل جلبنا معنا حلولًا كان الناس عطشى لها. وقد استقبلونا بحفاوة. لهذا السبب، نحن لا نُسارع بالوصول إلى أماكن فقط لنقول ‘توسّعنا’، بل نسعى فعلاً للوصول إلى أماكن تنادينا وتحتاج إلى خدماتنا. أماكن يمكننا أن نحلّ مشكلاتها. مثل الأطراف”.

هل حللتم مشاكل تخص الأطراف أم المجتمع العربي؟
“هناك اختلافات بين المجتمع العربي واليهودي، هذا واضح، لكن الحل الذي نقدّمه لا يتعلق بيهود أو عرب، بل بمشكلة الأطراف مقابل المركز. مثلًا، الدفع نقدًا. قبل فترة تحدثت مع السفير الألماني في إسرائيل عن هذا الموضوع، وقال لي إنه في ألمانيا هناك دولتان – المدن الكبرى، وباقي المناطق. ذلك يبدو مألوفًا، أليس كذلك؟ وبحسب كلامه، خارج المدن الكبرى، 50% من المواطنين يتعاملون بالنقد فقط. هكذا هو الحال أيضًا في الأطراف لدينا في البلاد، ولا توجد أي منصة تقدم حلًا حقيقيًا لذلك، باستثنائنا. لأننا بالفعل نشأنا من هذه المشكلات”.
كيف تحلون هذه المشكلة؟
“هناك أشخاص يُعرَّفون بأنهم بلا حساب بنكي، مثل المراهقين أو الأشخاص غير المتمرسين بالتكنولوجيا”.
أو أشخاص يعملون في السوق السوداء.
“لا يهم ما السبب لعدم وجود حساب بنكي لديهم. نحن نتيح لهم شراء منتجات رقمية نقدًا، من اشتراك نتفليكس حتى عملات في لعبة فورتنايت. هم يطلبون، يدفعون للمندوب نقدًا، وهو يُعطيهم رمزًا. موضوع آخر وجدنا له الحل هو مسألة العناوين، من خلال التكنولوجيا تمكّنا من تجاوز هذه العقبة وإيصال الخدمة لأشخاص يعيشون في شوارع غير مُمَسوحة للمرة الأولى في حياتهم. هذه ليست مشكلات تخص المجتمع العربي فقط. صحيح أنها موجودة فيه، وربما بنسبة أعلى من أي مكان آخر، لكنها أيضًا مشكلات موجودة في المجتمع الحريدي أو في البلدات النائية”.
عندما دخلتم إلى حيفا كانت هذه هي المرة الأولى التي تدخلون فيها إلى منطقة تعمل فيها وولت، هل تعتبرون أنفسكم منافسين مباشرين لها؟
“هم دخلوا بالفعل إلى أماكن كنا نحن فيها أولًا، لكن على أي حال نحن لا نرى أنفسنا كمنافسين لهم. نحن ننافس أنفسنا أولًا. فهم سيدخلون إلى أم الفحم، إنها فقط مسألة وقت، وأعتقد أن جميع الشركات الكبرى تريد أن تكون في كل مكان. السؤال هو إلى أي مدى سينجحون هناك. هم شركة جيدة، ولهم كل الاحترام على الكثير من الأمور، لكن لا يهمّني أن أتفوّق عليهم. أنا أقدّم خدمات شبيهة في بعض الحالات وخدمات مختلفة تمامًا في حالات أخرى، وهناك أشعر أنني لا أمثّل فقط شركة تجارية، بل أقدّم مساهمة حقيقية للمجتمع”.
همبرغر عربي وسوشي يهودي
خلال الحديث مع عبّاسي، تتضح حقيقة بسيطة واحدة: سواء كان الحديث عن عرب أو يهود، من العفولة أو الناصرة، فإن إسرائيل دولة تحب طلب الطعام، وبكثرة. يقول عبّاسي: “لا يوجد فرق جوهري في حجم الطلبات عبر التطبيق بين المجتمع العربي في الأطراف وبين تل أبيب. هناك مناطق يطلب فيها أكثر من 30% من السكان كل شهر، ويطلب الزبون في المتوسط حوالي ثلاث مرات في الشهر”.

“إذًا فإن عدد الطلبات يعكس حجم السكان، ومن الواضح أنه في غوش دان يوجد عدد أكبر من الأشخاص، ولكن عندما يتعلق الأمر بدافع الناس للطلب، فالوضع متشابه. دخلنا أيضًا مجال التجزئة، وذهلت حقًا، لم أصدق كم من الورود يمكن بيعها عبر التطبيق. ومع ذلك، هناك اختلافات، لا أنكر ذلك، وللأطراف البعيدة نقاط ضعف”.
يشير عباسي إلى المسافات الكبيرة بين السوبرماركت والزبائن، أو الحاجة لتوفّر مخزون كبير في كل الأوقات كجزء من نقاط الضعف في الأطراف. هناك أيضًا أمور تبدو بديهية تقريبًا، مثل نظام محوسب لعرض المخزون، والذي لا يمكن تنفيذه بسبب صعوبات مختلفة في العديد من الأعمال التجارية في المناطق الصغيرة. “هنا نبرز، لأننا نقدم للأعمال التي تعمل معنا نظام دعم كامل، نقيم لهم نظامًا محوسبًا، نوصلهم بشبكة واي فاي، ونعد لهم خطة اقتصادية، وفي النهاية يمنحنا ذلك الأفضلية“.
بحسب عباسي، فإن نهج “الأطراف أولًا”، وربما أيضًا “الأعمال الصغيرة أولًا”، جعل التطبيق محصنًا من العنصرية الإسرائيلية النمطية. فقد شهدت الشركة نموًا بنسب كبيرة في عكا تحديدًا أثناء الحرب، لأنها وفرت للسكان المحاصرين في منازلهم خدمة طلب المنتجات من السوبرماركت، وقد اغتنم السكان الفرصة بغض النظر عن اسم مدير الشركة أو موقع مكاتبها المركزية. “نحن شركة عربية، لكن في النهاية لدينا ليئور مدير المبيعات، وتعمل معه سجود مديرة التطوير، والمستثمر إيال فولدمان، والمدير التنفيذي حسن. نحن شركة إسرائيلية بالكامل”.
هل ترى فرقًا في أنواع الطلبات بين اليهود والعرب؟
“بالطبع. أولًا، يبدأ الأمر من الأعمال التجارية نفسها، ففي المجتمع العربي كثيرًا ما تكون هناك حاجة إلى مساعدة أكبر للدخول إلى المنصة الرقمية وأيضًا في إدارة نظام الطلبات المحوسب. إلى جانب ذلك، هناك الطعام نفسه. اليهود يطلبون الكثير من السوشي، أما العرب فإنهم يطلبون الكثير من البرغر، ويطلبون طعامًا آسيويًا أقل. بالإضافة إلى ذلك، إذا قارنتُ بين الناصرة ونتسيرت عيليت مثلًا، ففي الناصرة يطلبون اللحوم أكثر، أما في نتسيرت عيليت فالاتجاه أكثر نحو النباتي (فيجيتيريان) والنباتي الكامل (فيغان)، مع ميل قوي مجددًا نحو الآسيوي. لكن في نهاية المطاف، سواء كانوا يهودًا أو عربًا، الجميع يحبون طلب الطعام”.
رغم أن عباسي بدأ من الشوارع التي لا عناوين لها في أم الفحم، فإن أحلامه لا تنتهي بوادي عارة. قبل الحرب، بدأت HAAT تجربة تجريبية في المغرب، لكنها توقفت بسبب الحرب. “هناك أمور لا سيطرة لي عليها، نعم، هناك أماكن لا يمكننا دخولها الآن لأننا في نهاية المطاف شركة إسرائيلية. الحرب تؤثر علينا أيضًا”. ومؤخرًا، بدأت محادثات مع دول أخرى، وكما في الماضي، فإن دخول الشركة إلى الأسواق الجديدة سيتم من الباب الخلفي، من أطراف اليونان وليس من أثينا مثلًا.

ولكن حتى مع المكاتب الجديدة والفاخرة في حيفا، والأحلام بالتوسع إلى أوروبا، والخطط المستقبلية للوصول أيضًا إلى تل أبيب (“سيحدث ذلك في الوقت المناسب”)، يبقى عباسي متجذرًا في المجتمع الذي نشأ فيه؛ المجتمع الذي يتصدر العناوين الإعلامية في البلاد غالبًا بسبب أحداث عنف قاسية، والمجتمع المعتاد على قصص الجريمة والفشل، وهو مُصمِّم على أن يقدّم فيه أيضًا أمثلة على حكاية نجاح مغايرة.
“أريد أن أكون قدوةً، نعم. مثالًا يحتذى به في قصة نجاح، لكي لا يقتصر الأمر فقط على تلك القصص السلبية التي تظهر في وسائل الإعلام عن المجتمع العربي. نحن نبني أحلامًا، ونُتيح للشباب أن ينظروا إلى الأمام ويروا طريقًا آخر غير طريق الجريمة أو العنف. لهذا السبب لا يهمني كثيرًا كسب المال الآن. لستُ ثريًا، أنا موظف في شركتي، وأشعر أنني أقوم بثورة. وهذا مثير ومؤثر أكثر من بضعة ملايين في البنك”.