فوضى الجمارك قد تهدر ثمانين عامًا من التقدم الاقتصادي

أيقون موقع وصلة Wasla
آن كروجر
كبيرة خبراء الاقتصاد في البنك الدولي سابقا ونائبة المدير الإداري الأولى لصندوق النقد الدولي سابقا
آن كروجر
President Donald Trump signs Executive Orders 54325856729 e1744554720936
وزير التجارة هوارد لوتنيك رفقة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب في الييت الأبيض- الصورة: ويكيمديا

لآلاف السنين، أسَـرَت التجارة الدولية والاستكشاف مُـخَـيَّـلة الإنسان. والتاريخ، من الإسكندر الأكبر إلى ماركو بولو، ومن طريق الحرير إلى شركة الهند الشرقية، عامر بأمثلة من التجارة التي أعادت رسم خريطة العالم المعروف. ولكن طوال قسم كبير من التاريخ، كانت التجارة تتشكل بالاستعانة بالقوة وليس استنادا إلى مبادئ العدل والإنصاف.

بدأت هذه الحال تتبدل بعد أن أثبت آدم سميث وديفيد ريكاردو أن التعريفات الجمركية ضارة اقتصاديا: فهي ترفع التكاليف التي يتحملها المستوردون، وتحول الإنتاج إلى بلدان أعلى تكلفة، وتثبط الإبداع والابتكار، وتعزز الاحتكارات والفساد. ثم على نحو تدريجي، راجت رؤى سميث حول مخاطر سياسات الحماية، وأهمية السياسة الاقتصادية التي يستطيع المتعاملون في السوق التنبؤ بها، وسيادة القانون.

بعد الحرب العالمية الثانية، تغيرت أساليب حوكمة التجارة الدولية بدرجة كبيرة، عندما برزت الولايات المتحدة كقوة اقتصادية وعسكرية مهيمنة. بدلا من السعي إلى الحصول على تنازلات اقتصادية من الدول المهزومة، ناصَـر القادة الأميركيون فكرة إنشاء نظام تجاري مفتوح قائم على القواعد.

عاد النظام التجاري المتعدد الأطراف ــ الذي اكتسب الطابع المؤسسي عبر الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة (الجات) وخليفتها منظمة التجارة العالمية ــ بالفوائد على الولايات المتحدة وبقية العالم، وأذن بفترة دامت ثمانين عاما من النمو الاقتصادي غير المسبوق. وبحلول تسعينيات القرن العشرين، اعترفت حتى حكومات البلدان النامية، التي كانت تنتهج سياسات الحماية، بالتجارة الحرة كوسيلة فعالة للحد من الفقر ورفع مستويات المعيشة.

على مر السنين، خُـفِّـضَت الحواجز التجارية تدريجيا مع حرص منظمة التجارة العالمية على تشجيع التجارة العالمية المفتوحة، وحل النزاعات، وتسهيل المفاوضات من أجل تخفيضات متبادلة للتعريفات الجمركية وإزالة قيود تجارية أخرى. وحتى قبل عقد من الزمن تقريبا، كان هذا النظام يُـعد على نطاق واسع ناجحا.

ولكن بعد فوز دونالد ترمب في الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016، بدأ يعكس اتجاه هذا التقدم. أثناء فترة ولايته الأولى، كسر ترمب التقليد الذي دام عشرات السنين من دعم الحزبين الجمهوري والديمقراطي للتجارة الحرة وشَـنّ حربا تجارية مع الصين. وكان من المتوقع أن يستعيد خليفته جو بايدن سياسة الولايات المتحدة التجارية التقليدية. لكنه بدلا من ذلك أبقى على كثير من التعريفات والقيود التجارية من عهد ترمب.

في ولايته الثانية، ذهب ترمب إلى أبعد من ذلك، فمزق الاتفاقيات التجارية وشنّ حربا تجارية عالمية. في الوقت الحالي، تخضع جميع السلع التي تدخل الولايات المتحدة لتعريفة أساسية بنسبة 10%، مع نافذة مدتها تسعين يوما للمفاوضات الثنائية لتجنب معدلات أعلى كثيرا. التعريفات الجمركية على الواردات الصينية، على سبيل المثال، زيدت إلى 145%، وذلك بعد أسبوع من الزيادات المتبادلة التي رفعت خلالها الصين تعريفاتها الجمركية على السلع الأميركية إلى 125%.

ويتسبب نهج إدارة ترمب المتقلب وغير المتوقع في تفاقم المشكلة. فعلى مدار الأسابيع الثلاثة الأخيرة، أعلن ترمب عن فرض رسوم جمركية باهظة على كل بلد في العالم تقريبا، ثم رفع معظمها، ثم أعاد فرض رسوم أخرى، فخلق ذلك حالة من انعدام اليقين الواسع الانتشار. من الواضح أن إدارته عاقدة العزم على إعادة تأكيد هيمنة الأغنياء والأقوياء على الصعيد الجيوسياسي، لكنها حتى الآن، لم تجلب سوى الفوضى.

برغم أن ترمب أشار من حين لآخر إلى أن هدفه هو الضغط على دول أخرى لخفض التعريفات الجمركية أو تقليل فوائضها التجارية، فلم يعد من الممكن أخذ مثل هذه الادعاءات على محمل الجد. فقد عرض الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، إلغاء جميع التعريفات الجمركية الصناعية إذا فعلت الولايات المتحدة المثل ــ لكن ترمب رفض العرض. وقد فرض رسوما جمركية أيضا على الواردات المكسيكية والكندية على الرغم من اتفاقية التجارة الحرة التي تفاوض عليها بنفسه أثناء ولايته الأولى. وسنغافورة، التي لا تفرض أي رسوم جمركية على السلع الأميركية، وتدير عجزا تجاريا مع الولايات المتحدة، فُرضت عليها رغم ذلك التعريفة الأساسية بنسبة 10%.

تُعد هذه الإجراءات انتهاكا صارخا لروح ونص قواعد منظمة التجارة العالمية، فضلا عن المبدأ التأسيسي للمساواة في المعاملة بين الشركاء التجاريين. وهي تمثل أيضا خروجا واضحا عن التزامات تمسكت بها أميركا لفترة طويلة، وخروجا عن سيادة القانون إلى استخدام القوة في العلاقات الثنائية كما كانت الحال قبل الحرب العالمية الثانية.

عندما يعجز المستوردون والمصدرون عن التنبؤ بالتعريفات الجمركية في المستقبل أو الاعتماد على الوصول المستقر إلى الأسواق، فإنهم يصبحون أقل ميلا إلى تنفيذ استثمارات طويلة الأجل. وبالتالي، إذا استمرت إدارة ترمب على مسارها الحالي، فسوف تتراجع آفاق النمو العالمي بدرجة كبيرة في الأرجح.

وإذا ما استجابت الدول فرادى لتهديدات ترمب بمحاولة تلبية مطالبه الغامضة والمتغيرة، فقد تكون النتيجة اقتصادا عالميا مفتتا يتسم بتباطؤ النمو وتنامي حالة انعدام الاستقرار. بالنظر إلى هذه المخاطر، فإن الطريقة الأكثر فعالية لاستعادة آفاق النمو العالمي تتمثل في عكس المسار من جانب الولايات المتحدة وطمأنة المجتمع الدولي إلى أن التغيير حقيقي ودائم.

كبديل، في حالة استمرار ترمب في الامتناع عن التوصل إلى حل وسط، ينبغي لبلدان أخرى أن تأخذ زمام المبادرة وتشكل تحالفا تجاريا جديدا يتمسك بمبادئ منظمة التجارة العالمية بينما يعمل بشكل مستقل عن الولايات المتحدة. ففي نهاية المطاف، تمثل الولايات المتحدة أقل من 5% من سكان العالم ونحو 9% من الصادرات العالمية. ومن الممكن أن يعمل مثل هذا التحالف على تنسيق جهوده من خلال هيئة تجارية دولية تسهل حل النزاعات، فتتقلص بهذا قوة أميركا التفاوضية. ومن الممكن أن نطلق على هذه الهيئة مسمى “منظمة التجارة بدون الولايات المتحدة” (MUTO).

هذا النوع من المبادرات ليس بلا سابقة. فعندما تسببت الولايات المتحدة فعليا في إصابة آلية تسوية المنازعات في منظمة التجارة العالمية بالشلل عندما رفضت الموافقة على تعيين قضاة استئناف جدد، وافقت دول عديدة على حل النزاعات التجارية فيما بينها باستخدام عمليات منظمة التجارة العالمية. وإذا أعاد عدد كاف من الدول تأكيد التزاماتها الجمركية والتجارية ضمن إطار جديد برعاية منظمة التجارة بدون الولايات المتحدة، فسوف يتضاءل النفوذ الأميركي، وقد يدفع أصحاب المصلحة المحليون باتجاه العودة إلى نظام تجاري مفتوح متعدد الأطراف.

حيثما تُـطَـبَّـق التعريفات الجمركية وغيرها من الحواجز التجارية ــ سواء في الولايات المتحدة أو في الخارج ــ فإنها تُـعطي الفرصة لظهور جماعات المصالح التي تستفيد من وجودها، وهذا يجعل إزالتها صعبة على نحو متزايد. إذا تمكنت البلدان المستهدفة بمطالب ترمب التجارية ضمن مُـهلة التسعين يوما من تنسيق استجابة موحدة وفي الوقت المناسب، فقد تبدأ آفاق الاقتصاد العالمي في التحسن. ولكن إذا استمر تنمر ترمب ــ وما ينتج عنه من حالة انعدام اليقين ــ فقد يُـهـدَر قدر كبير من التقدم الاقتصادي الذي تحقق طوال الأعوام الثمانين الأخيرة.

ترجمة: إبراهيم محمد علي      

حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2024.
www.project-syndicate.org

مقالات مختارة