
في عالم يشهد تسارعًا غير مسبوق في تبني أدوات الذكاء الاصطناعي، باتت أسواق العمل التكنولوجية تتغير من جذورها. لم تعد المهارات التقليدية كافية لحجز موطئ قدم في شركات التقنية، وها هو الذكاء الاصطناعي يعيد رسم الخريطة المهنية، لا سيما على حساب الموظفين المبتدئين والخريجين الجدد الذين يجدون أنفسهم في مواجهة واقع جديد يزداد فيه الطلب على أصحاب الخبرة ويضيق فيه الباب أمام الوافدين الجدد.
تشير بيانات حديثة من شركة “SignalFire”، المختصة بتتبع بيانات أكثر من 600 مليون موظف حول العالم، إلى تراجع ملحوظ في فرص التوظيف أمام الخريجين الجدد في شركات التكنولوجيا. ففي عام 2024، انخفضت نسبة التوظيف في هذا الفئة داخل الشركات الكبرى بنسبة 25% مقارنة بالعام الماضي، بينما قلصت الشركات الناشئة هذه النسبة بـ11%.
السبب؟ ببساطة، الذكاء الاصطناعي. فمع دخول أدوات ذكية قادرة على أداء المهام الروتينية أو الأساسية مثل البرمجة الأولية، تصحيح الأكواد، تثبيت البرمجيات أو حتى التحليل المالي، لم تعد هناك حاجة ماسة لتوظيف فرق كبيرة من المحللين والمساعدين الجدد. هذه المهام التي كانت تشكّل البوابة الأولى للتدرج المهني أصبحت تُنجز آليًا، وبكفاءة وسرعة أعلى.
آشر بانتوك، رئيس قسم الأبحاث في SignalFire، قالها بصراحة: “الذكاء الاصطناعي أصبح لاعبًا محوريًا في قرارات التوظيف”. وأوضح أن الوظائف المبتدئة تحديدًا هي الأكثر عرضة للأتمتة، بما أن طبيعتها قابلة للتكرار ولا تتطلب خبرة تحليلية أو استراتيجية متقدمة.
هذه الظاهرة لا تقتصر على الشركات الناشئة، بل تمتد إلى مؤسسات عملاقة في القطاع المالي. غابي ستينجل، مؤسس شركة Rogo المتخصصة في التحليلات المالية المبنية على الذكاء الاصطناعي، لفت خلال قمة للتكنولوجيا المالية إلى أن أداة شركته تقوم اليوم بمعظم المهام التي اعتاد القيام بها كمحلل في أحد البنوك الاستثمارية. ورغم أن بنوكًا مثل “غولدمان ساكس” و”مورغان ستانلي” لم تُعلن رسميًا عن تغييرات في هذا الاتجاه، فإن تقارير سابقة رجّحت خططًا لخفض أعداد المحللين المبتدئين بنسبة قد تصل إلى الثلثين.
وفي مقابل هذا الانكماش في توظيف الخريجين، تسجّل معدلات توظيف أصحاب الخبرة صعودًا لافتًا. فالشركات الكبرى زادت من تعيين من لديهم خبرة تتراوح بين عامين وخمسة أعوام بنسبة 27%، بينما رفعتها الشركات الناشئة بـ14%. وكأن السوق يقول للخريج الجديد: “عد إلينا حين تكون قد أصبحت خبيرًا”.
الخبيرة في الموارد البشرية هيذر دوشاي، الشريكة في SignalFire، تؤكد أن المشكلة القديمة التي تواجه الخريجين، وهي “لا وظيفة بدون خبرة، ولا خبرة بدون وظيفة”، باتت أكثر تعقيدًا. وترى أن الحل لا يكمن في مقاومة الذكاء الاصطناعي، بل في التكيّف معه وتعلم أدواته. تقول دوشاي: “الذكاء الاصطناعي لن يأخذ وظيفتك… ما لم تكن شخصًا لا يعرف كيف يستخدمه“.
في ظل هذا التحوّل الجذري، تبرز ضرورة إعادة التفكير في مناهج التعليم الجامعي وأساليب تدريب الطلاب. لم يعد امتلاك شهادة في علوم الحاسوب أو الهندسة وحده كافيًا، بل أصبحت القدرة على استيعاب أدوات الذكاء الاصطناعي والعمل معها عنصراً حاسماً في دخول سوق العمل من بوابته الأمامية.
بينما يتحدث البعض عن “عصر نهاية المبتدئين”، يتضح أن المرحلة المقبلة ستكون من نصيب من يستطيع الجمع بين المعرفة التكنولوجية الأساسية والمهارة في التعامل مع الذكاء الاصطناعي. فالوظائف لم تختفِ، بل أعيد تعريفها، ومن يريد البقاء في اللعبة عليه أن يواكب القواعد الجديدة.
مقالات ذات صلة: eBay تغلق أبوابها في إسرائيل وتسرّح مئات الموظفين











