
يشكّل تحويل الأملاك في القدس إلى وقف وسيلة لحمايتها من التسريب والمصادرة، خاصة في ظل قوانين مثل “قانون أملاك الغائبين” لعام 1950، ومع وجود 11 مؤسسة إسرائيلية تعمل على تهويد المدينة. حيث يقدّم المالك طلبًا رسميًا لسلطة الأوقاف الأردنية، ليُسجَّل العقار وقفًا عامًا يحظر بيعه أو نقله، ما يضمن -إلى حدٍّ كبير- بقاءه بيد أصحابه الأصليين. كما أن للوقف فوائد اجتماعيةً أخرى، فالوقف الخيري يُخصص للمشاريع الخيرية التي تفيد المجتمع بشكل عام، ويسهم الوقف الذري (المخصص للعائلة) في توضيح حقوق الورثة بشكل واضح، ما يحدّ من النزاعات المستقبلية التي قد تنشأ على الميراث.
وتُقدّر نسبة العقارات الوقفية الإسلامية في البلدة القديمة بأكثر من 67% من مجمل العقارات، بينما تصل نسبة الأوقاف ككل (بما يشمل الأوقاف غير الإسلامية) إلى نحو 80%. وتشير التقديرات إلى أن نسبة الأوقاف الخيرية في البلدة القديمة تبلغ 30%، فيما تمثل الأوقاف الذرية نحو 40%.
وعند إضافة المسجد الأقصى، الذي يُعد وقفًا إسلاميًا تبلغ مساحته 21% من البلدة القديمة، يصبح المجموع الكلي للأملاك الوقفية الإسلامية الخيرية والذرية في البلدة القديمة حوالي 86%. وتشير سجلات المحكمة الشرعية في القدس إلى أن أكبر الأوقاف في المدينة هي الأوقاف الإسلامية، ويبلغ عدد الوقفيات الحالية أكثر من ألفي وقف، بما في ذلك بعض الوقفيات الخاصة بغير المسلمين.
وقف قطينة: مثال على الوقف الذري
حمزة قطينة، محامٍ ومتولي وقف عائلته، يؤكد أنّ العائلة حوّلت جميع ممتلكاتها في البلدة القديمة إلى أوقاف ذرية لحمايتها من المصادرة الإسرائيلية. ويشير إلى أنّ مؤسسة الوقف، التي يعود تاريخها لأكثر من 300 عام، شكّلت عبر التاريخ وسيلة لحماية الأملاك المقدسية.
وأوضح قطينة أنّ العقار العائلي حُوِّل رسميًا إلى وقف ذري عام 2020، بعد إجراءات استغرقت نحو شهرين لتثبيت الوقف بشكل قانوني. ويضيف: “عقارات بيت المقدس هي أصول يجب الحفاظ عليها، فصونها يشبه الحفاظ على المسجد الأقصى، وبقاء العائلات مرابطة حوله يعد وسيلة فعّالة لحماية الأملاك من المصادرة”.

الأوقاف في القدس حصن تاريخي
قال د. ناجح بكريات، رئيس أكاديمية الأقصى للوقف والتراث، إن جذور الوقف في القدس تعود إلى الفتح الإسلامي، حيث أوقف الخلفاء محيط المسجد الأقصى، وتوالت الأوقاف عبر العصور لتشكل شبكة حماية للأملاك المقدسية.
ورغم أن الوقف قد يشكّل حمايةً نسبية ضد المصادرة، إلا أن بكريات أشار إلى أن الوضع في القدس شديد التعقيد، إذ صادرت الحكومة الإسرائيلية المدرسة التنكزية، التي تم وقفها منذ العهد المملوكي، وحولتها إلى مركز لحرس الحدود قرب باب السلسلة، كما استولت على نحو 150 دونمًا من أراضي الوقف في البلدة القديمة. ويؤكد بكريات أن حماية الأوقاف تتحقق بشكل أفضل عبر تثبيتها رسميًا في المحاكم الإسرائيلية، بينما لا توفر التفاهمات أو القوانين الدولية ضمانات كافية.

وأوضح أن المدينة تضم 54 مدرسة وقفية، وفي الحقبة العثمانية كان هناك أكثر من 72 قرية موقوفة، فيما تصل نسبة الأملاك الوقفية في فلسطين إلى نحو 32%. “أشجع الأهالي على تحويل ممتلكاتهم إلى أوقاف لحمايتها” يقول بكيرات، ويستشهد بنماذج بارزة، مثل وقف الخالدي والنشاشيبي والعسلي والبديري والأفغاني.
وأضاف بكريات أن القيود الإسرائيلية على المحاكم الشرعية ودائرة الأوقاف الأردنية، وتقليص صلاحياتها في قضايا الملكية والمصادرة، جعلت القرارات النهائية مرهونة بالمحاكم الإسرائيلية، وأثرت على قدرة الأوقاف في إدارة المدارس والمساجد والمقابر وتنفيذ المشاريع. كما تشمل هذه القيود مراقبة أي بناء أو ترميم، وفرض إجراءات بيروقراطية معقدة تعرقل العمل اليومي للمؤسسات الوقفية.
الوقف حلّ قانوني وأخلاقي ضد التسريب
قال المحامي خالد زبارقة، المختص بشؤون القدس، إن الوقف من الناحية القانونية يعني حبس العقار أو منع التصرف به من قبل الواقف، وتحويله (في حالة الوقف الخيري) إلى وجه من وجوه البر والإحسان ابتغاء الأجر والثواب. وأكد أن لهذا التعريف قدسية خاصة، إذ ينزع ملكية العقار أو حق التصرف به من صاحبه، ويحوّله إلى دائرة الأوقاف التي تتولى إدارة منافعه.
وأوضح زبارقة أن القوانين الإسرائيلية المطبقة في المحاكم الشرعية تستند إلى مجموعة من التشريعات، أهمها قوانين الوقف التي كانت سارية في فترة الحكم الأردني، والتي ارتكزت أساسًا على الأحكام القانونية العثمانية. وأضاف أن الأوقاف تشكّل حماية أقوى للممتلكات مقارنة بالحماية الفردية، إلا أن سلطات الاحتلال تحاول في كل قضية البحث عن ثغرات قانونية، ما يستوجب التوجه إلى محامٍ مختص.

وأشار إلى أن أي وقف يتطلب تقديم طلب للمحكمة الشرعية لتحديد نوعه وفق ما تنص عليه حجة الوقف، سواء كان وقفًا خيريًا أو ذريًا. فالوقف الخيري يخصص لمصلحة المجتمع وأغراض عامة مثل المدارس والمستشفيات ودعم الفقراء، بينما الوقف الذري يُخصص لورثة أو عائلة صاحب الوقف، بحيث تصرف منافعه لذرية الواقف وفق ما يرد في صك الوقف.
وأشار زبارقة إلى أن العديد من التركات والعقارات أصبحت اليوم بيد الجيل الثالث والرابع، ما أدى إلى تعدد الورثة من دون تسجيل قانوني واضح لحقوقهم، الأمر الذي يؤثر على إمكانية التصرف بالعقار، سواء عبر البيع أو التأجير أو تحويله إلى وقف. وختم بالقول: “من الأفضل تحويل هذه الأملاك إلى أوقاف، لأننا نعيش مرحلة حساسة تتسم بخطورة كبيرة من تسريب العقارات المقدسية إلى جهات استيطانية، فيما يبقى الوقف الحل الأمثل لحمايتها”.

الوقف المدني: أداة السلطات لنزع الطابع الديني عن الأوقاف الإسلامية
صادرت الحكومة الإسرائيلية أكثر من 8,000 دونم من أراضي عين كارم وكريات هايوفيل، التي كانت ضمن الأملاك الوقفية، لصالح بناء مستشفى هداسا ومؤسسة “يد فاشيم”. ويعكس ذلك حجم التحديات التي تواجه إدارة الأوقاف في القدس، إذ تتعرض للمصادرة حتى وهي مسجلة رسميًا.
كما اعتُبرت غالبية الأوقاف الإسلامية في غرب القدس والداخل الفلسطيني “أملاك غائبين”، بدعوى أن القائمين على إدارتها من أعضاء المجلس الإسلامي الأعلى ومتولي الأوقاف الذرية هم “غائبون”، ونقلت تبعًا لذلك إلى “حارس أملاك الغائبين”، وهو القانون الذي أُعيد تفعيله عام 2015.
واستحدثت السلطات ما يُعرف بالوقف المدني بموجب “قانون الأمانات الإسرائيلي” الصادر عام 1979، وهو نظام يشبه الوقف الخيري والذري لكنه لا يتبع مبادئ الشريعة الإسلامية ولا يخضع للمحاكم الشرعية. يتميز الوقف المدني بسهولة إنشائه عبر سند كتابي أو وصية، ما يجعل إجراءاته أسرع وأبسط، وهو ما يدفع بعض الأفراد إلى التوجه إليه لتجاوز التعقيدات والقيود المفروضة على الأوقاف الشرعية. غير أن هذا القانون يمنح المحاكم المدنية صلاحية تحديد أهداف الوقف وشروطه وتغييرها أو حتى إلغائها بالكامل.

ويُنظر إلى الوقف المدني كأداة لنزع الطابع الديني عن الأوقاف الإسلامية، إذ يخضع لإشراف المحاكم المدنية المركزية لا الشرعية، ما يضعه في دائرة النفوذ الإسرائيلي المباشر. وتستفيد إسرائيل من هذه الأوقاف عبر التدخل في إدارتها أو توجيهها لمشاريعها، سواء بتغيير الشروط أو باستغلال الأراضي، ما يجعل الوقف المدني أقل حماية بكثير مقارنة بالوقف الإسلامي التقليدي.
المتطلبات والتحديات لتحويل الأملاك إلى وقف
قال القاضي الشرعي محمد سرندح، في المحكمة الشرعية الأردنية بالقدس، إن الأسس الشرعية للوقف تعتمد على مبدأ حبس الأصل وتمليك منفعة العقار لسبل الخير، بحيث يبقى العقار محفوظًا وغير قابل للبيع، بينما تُستخدم منافعه لأغراض خيرية مثل المدارس والمستشفيات والمساجد ودعم الفقراء والمجتمع. وأوضح أن الشروط الأساسية لقبول العقار كوقف هي أن يكون ملكًا خاصًا للواقف، وتُدار الأوقاف وفق المذهب الحنفي تحت إشراف وزارة الأوقاف الإسلامية.
وبيّن سرندح أن رسوم تحويل العقار إلى وقف تبلغ حوالي 500 شيكل للوقف الذري، فيما لا توجد رسوم للوقف الخيري، مشيرًا إلى أن محاميين مثل سناء دويك وأحمد شويكي يقدمون خدمات قانونية مجانية ضمن مشروع تموله مؤسسة الرؤيا الفلسطينية لدعم المستفيدين. وأكد أن التحديات تشمل عدم توفر الطابو وصعوبة فهم ثقافة الوقف، وأن إجراءات التحويل تتطلب إعداد نية الوقف، وإثبات الملكية، والاستعانة بمهندس ومساح، وتقديم الطلب إلى المحكمة التي تتحقق من الملكية وتستدعي الشهود قبل إصدار حجة الوقف.

وفي هذا الصدد، يوضح المحامي خالد زبارقة، أن على حجة الوقف أن تتضمن تفاصيل دقيقة عن ممتلكاته وغرضه، وأن عملية التسجيل قد تستغرق عدة أشهر في حال اكتمال المستندات وصحتها القانونية.
كما أكد زبارقة أن المحكمة الشرعية تفحص ملكية العقار وهويته ومساحته وحدوده قبل الموافقة على تحويله إلى وقف، موضحًا إمكانية الطعن بالوقف من قبل الورثة أو من جهات أخرى، ما قد يؤدي إلى إلغاء أو تعديل التسجيل.
ويشير سرندح إلى أن العقارات التي تنتهي ذريتها تتحول تلقائيًا إلى وقف خيري، مؤكدًا أهمية تحديد “الطبقات” عند الوقف الذري لتقسيم حقوق الانتفاع بين الأجيال، بما يضمن حماية الوقف من النزاعات واستمرارية أهدافه الاجتماعية والخيرية، مع إدارة العقار بواسطة متولي أو ناظر من العائلة أو جهة يحددها الواقف.
وقف الأملاك العقارية: وسيلة لدرء النزاعات
أوضح محمد هادية، رئيس مجلس مؤسسة ACT، أن المؤسسة تعمل على توفير بدائل وآليات للإصلاح والوساطة والتحكيم والحوار بدلاً من اللجوء للتقاضي أو العنف، مؤكداً أن وقف الأملاك العقارية يعتبر من أهم الوسائل لحماية الممتلكات وحل النزاعات المتعلقة بها في القدس.
وقال هادية إن تحويل العقارات إلى وقف يمكن أن يسهم في حل النزاعات بين الأطراف، حيث يُحدد الوقف الشروط والحقوق لكل طرف، سواء من حيث الانتفاع بالعقار أو تقسيم العوائد، وفقًا للشريعة الإسلامية والقانون. وهذا يضمن أن كل طرف من الورثة أو المستفيدين يحصل على حقوقه بطريقة واضحة وعادلة، ما يقلل من النزاعات أو الخلافات المستقبلية حول الملكية أو الاستخدام.

وأضاف أن المؤسسة تساعد الأفراد في الإجراءات القانونية المتعلقة بتسجيل الوقف والتحكيم في حال وجود نزاع، وتهدف إلى الوصول إلى اتفاق مرضٍ بين جميع الأطراف. كما تقوم المؤسسة بالتوعية العامة من خلال محاضرات وندوات، وتقديم استشارات قانونية بمساعدة محامين متطوعين، وفي حال وجود أي رسوم، يتم تقديم الخدمة مجاناً.
مقالات ذات صلة: مصنع أصلان للبلاط الشامي في نابلس: صمود في وجه الحداثة والظروف الاقتصادية القاسية











